اخر الاخبار

لم نختر التواريخ .. لكن صناع التغيير ودعاة الحرية الاوفياء لشعبهم ووطنهم هم من وشموا التواريخ بأسمائهم ومواقفهم النبيلة من اجل الانسانية.

عرفنا البداية منذ أول خطوة ونحن نسير مشياً على الاقدام بسبب فرض حظر التجول على السيارات والدراجات والاجراءات الامنية المشددة وغلق عدد من الجسور ، الكل متجه صوب التحرير وسط بغداد حيث الملتقى عند نصب الحرية ، لم تكن ( ساحة التحرير) الساحة الوحيدة التي اختارها العراقيون نساء ورجال ليرفعوا اصواتهم بوجه الظلم بل كانت هناك البصرة والناصرية والنجف وبابل وواسط ومحافظات ومدن اخرى لرفض كل السياسات الخاطئة والمهينة التي وضعت الشعب والبلد في مليون مأزق ومأزق دون ان يرف لاصحابها جفن أو تدمع لهم عين ، بل كانوا ينهبون خيرات البلد ليشيدوا امبراطورايتهم الرملية ( الزائلة لا محالة ولو بعد حين ) بالطائفية ونهج المحاصصة الذي نخر جسد التنوع العراقي وشوه جمال الانسانية فيه.

لم يكن المسير الى التحرير سهلاً بل كان هناك الف صبة وصبة وانتشار ملفت وغريب للقوات الامنية في عموم مناطق بغداد ، التي كانت توحي بأن هناك أمراً خطيراً ينتظر كل الاحرار والمطالبين بمحاربة الفساد ، لكن العزيمة كانت أصلب وأقوى من مظاهر الترهيب التي كانت واضحة على ملامح الكثير ممن لم يملكوا الشجاعة لأظهار وجوههم من عناصر الامن التي وظفتها السلطة لقمع المتظاهرين ، لم تكن حماية المتظاهرات والمتظاهرين مسؤوليتهم، بل لأعاقة مسيرتهم ولضربهم بوحشية ولأعتقال من يمكن اعتقاله وتصفية وملاحقة الكثير منذ ذلك التاريخ وحتى الان.

شرارة 25 شباط 2011، والتي كانت هبة شبابية أيضا ، لم تكن مودلجة أو مسيسة كما يشوهها البعض من المتضررين من التظاهرات العراقية بشكل عام وخاصة من ( الساسة الفاسدين ) ، كانت متميزة بمن دعمها من المثقفين والادباء والمتقاعدين والنساء والفلاحين والعمال والكسبة وكل مواطنة ومواطن ارهقته السياسات التي كانت تسعى لتمزيق الشعب وتجويعه وسرقة المال العام وضياع البلد.

شاءت الصدف ان اكون في بغداد للمشاركة في هذا اليوم ، وان اتذكر 25 شباط ، اتذكر لقطات لا يمكن ان تنسى، لكن من الجيد ان اكتب عنها كي لاتُمحى من ذاكرة القراء والمتصفحين وكتاب التاريخ الصادقين في نقل الاحداث بأمانة ، اللقطة الاولى عندما كانت الحشود تتجمهر حول التحرير وتهتف بالشعار الكبير ( باطل ) كانت الطرق مقطوعة والساحات مطوقة بالعناصر الامنية وطائرات الهليكوبتر أو ( السمتية ) تحلق في السماء ، وعندما كانت تقترب قليلاً كانت ايادي المتظاهرين تلوح بالتحية ، لكن المفارقة ان الاوامر العسكرية كانت عكس ذلك ، فهي كانت تقترب كثيرا من المتظاهرين لا لتحيتهم بل لترهيبهم ولتحريك الهواء الذي يدفع بغبار الارض ان يتصاعد كي يملأ عيون المتظاهرين بذرات التراب الناعم ، مشهد لا ينسى ولا ادري كيف يتذكر طاقم السمتية ذلك المشهد ، هل يتذكرونه بفخر كونهم اداة بيد الفاسدين أم يتذكرونه والعار يلاحق ضمائرهم وهم يخالفون عملهم بمهنية؟

بعد هذا اليوم تم اعتقال اربعة من النشطاء الشباب، كنت وقتها في محافظتي النجف وصدمنا الخبر كما صدم الملايين الذين تابعوا النشرات الاخبارية ، أذ لم نتوقع ان تصل السلطة الحاكمة انذاك الى هذا المستوى ، وكان مؤشرا خطيرا على انتهاك حرية التعبير ، واتفقنا كشبيبة من النجف ان نقيم وقفة احتجاجية كما جرى في المدن الاخرى ، لتحريك الرأي العام وسط مدينة النجف القديمة ( منطقة النفق سابقاً ) حيث يتوافد الالاف من الزوار وعمال المساطر والمقاولين في البناء ، ووقفنا ونحن نرفع لافتة تحمل صور المعتقلين ونوزع بيان يطالب بالاسراع في اطلاق سراح المعتقلين الاربعة ، وفجأة اقتربت سيارة دورية للشرطة واخذت تسأل من انتم ومن هؤلاء يقصدون الذين صورهم على اللافتة ؟ فشرحنا لهم الموضوع بهدوء ، لكن الضابط لم يقتنع وقال متسائلاً وبالنص ( هذولة من النجف )؟ فأجبناه لا .. انهم زملاء لنا من بغداد ، فرد رداً مستفزاً وما علاقتنا بأهل بغداد ، لم استطع ان أمسك نفسي ، فأجبته ليش شنو علاقتنا ، ليش مو كلنا عراقيين ، يعني احنة من يصير علينا شي مو عيب ما يوكف ويانة أهل بغداد لو أهل الموصل وغيرهم ، وضربت له مثلاً ليش وقفتنا من اجل ابناء شعبنا تتحارب ( بس هناك وقفات اخرى من أتصير محد بيكم يكدر يفتح فمه ) وحتى سلطة متصير عدكم ؟!

هنا الضابط سحب جهاز اللاسلكي الذي يحمله ليطلب تعزيزات ؟! يا للدهشة تعزيزات على وقفة تتكون من مجموعة سلمية صغيرة لم يتجاوز عددهم 15 شخصاً وكلهم شباب، عندها اعطيت اشارة لزملائي بالتفرق وكنا قد اتفقنا على هذا الامر من باب الاحتياط حتى لانخسر احداً اخر، وتفرقنا في عدة اتجاهات ولم نعطهم الفرصة للامساك بأحدنا، لكنني حتى الان اتساءل ، لماذا عناصر الاجهزة الامنية لاتبقى مهنية ومحايدة ، عملها الوحيد هو حفظ الامن للمواطن وللممتلكات بدلا من حفظ النظام الفاسد؟!

بالرغم من كل اللقطات تبقى اللقطة الاجمل هي شرارة 25 شباط ودور ( شباب شباط ) الذي لاينسى، الشرارة التي تحولت بمرور الوقت والسنوات الى ثورة وعي بعد سلسلة من التظاهرات التي هزت الشارع العراقي وخلفت ادراكاً اكبر بحرية التعبير كأداة سلمية للحركة الاحتجاجية المطالبة بالتغيير الشامل من اجل بناء دولة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتدعم سيادة القانون وتكرس قيم العدالة الاجتماعية في عراق جديد.

عرض مقالات: