اخر الاخبار

تلك الصبية في شارع الكفاح

انتميت للحزب الشيوعي العراقي في ربيع العام 1969 وكنت لا ازال في الخدمة العسكري، جندياً في القاعدة الجوية بالحبانية. بعد انتمائي رحلت الى خلية حزبية في شارع الكفاح وتسلمني رفيق بالقرب من مدرسة في منطقة صبابيغ الآل مقابل كراج النهضة الحالي.

كانت العلامة للتعارف أن امسك بيدي اليسري صحيفة الجمهورية وفي اليسرى مسبحة صفراء، بذلت جهداً كبيرة حتى استعرتها من والدي، الذي استغرب هذا الطلب، فأنا لم أكن استخدم مسبحة في حياتي اليومية.

اخذني الرفيق مباشرة لاجتماع الخلية في منزل يقع في بداية شارع الكفاح بالقرب من سينما غرناطة. كانت  العائلة التي استقبلتنا بترحاب واحترام كبيرين ميسورة الحال والمنزل أنيق مرتب. وقد تفاجأنا بإن من قدم لنا الشاي والكليجة قبل الاجتماع، صبية رائعة الجمال هي شقيقة رفيقنا في الخلية. وكان مصدر المفاجأة هي أننا كنا من عائلات محافظة من غير الممكن أن يرى زائر أو ضيف،  شقيقاتنا أو زوجاتنا في أي حال من الأحوال، فكيف بصبية بهذا الجمال. بعد حين علمت من خالد أن شقيقته هي أيضاً شيوعية مثلها مثل والدتها التي استقبلتنا بابتسامة رائعة وهي تفتح لنا باب المنزل.

في تلك  اللحظة بالذات عرفت أن هناك عائلات أو مجتمع غير عائلاتنا ومجتمعنا. كنا خمسة رفاق عدا مضيفنا خالد، ثلاثة من مدينة الثورة وإثنان من الكفاح نفسها وكانا على علاقة صداقة مع خالد كما تبين لي فيما بعد.

رحب بي الرفاق أولا، باعتباري جديداً على الخلية، ثم بدأنا اجتماعنا وكنت أشبه الأطرش بالزفة، فهذه هي المرة الأولى التي احضر فيها اجتماعاً حزبياً، بعد بضعة اشهر قضيتها كصديق للحزب.

كنت تعرفت على الحزب من أجواء عائلتي، فقد كان أخي الكبير (عبد الواحد) شيوعياً اعتقل في زمن عبد الكريم قاسم إثر مشاركته في تظاهرات تطالب بالسلم في كردستان، وكنت ارافق والدتي عندما تحين زيارته وهو في معتقل الفضيلية. ولطالما سألته في تلك الزيارات، التي كنا نحمل له خلالها أنواعاً من الطعام في صفرطاس، عن سبب سجنه، وكان يبتسم ويقول لي من “تكبر تعرف”.

وكان ابن عمي (داخل محمد) شيوعي هو أيضاً، وقد زرع (داخل) في محيطنا نحن أبناء العم بذرة قوية للميل الى الفكر الشيوعي، وكان نموذجاً رائعاً لأخلاقيات هذا الفكر وثقافته ومشاعره الانسانية.

في خضم الخلاف داخل الحزب، الذي حدث في تلك الفترة، ومن ثم حدوث انشقاق ما سمي بالقيادة المركزية، تفككت بعض الخلايا الحزبية ومنها خليتنا إذ ذهب البعض مع الإنشقاق. ولم تكن لدي فكرة واضحة عن حيثيات هذا الموضوع أذ كنت لاأزال في الثامنة عشرة من العمر، لهذا فرط العقد ووجدت نفسي لا في الحزب ولا في القيادة، لكني سرعان ما عدت بعد نحو سنة ونصف السنة، لأنتمي مجدداً عن طريق أحد اقربائي واسمه عبد الزهرة، وكان مكان ترحيلي الى الخلية الجديدة في (ساحة الطابوق) بمدينة الثورة (مستشفى الأطفال حالياً) جاء الرفيق الجديد وهو ينتعل شحاطة سوداء ويسحب دراجة هوائية، وأخذني مشياً على الأقدام حتى نهاية المدينة، لأجد نفسي في منزل متواضع ليس فيه غير غرفتين صغيرتين حشر الرفيق المضيف أمه وزوجته وأولاده الثلاثة في واحدة واجتمعنا في الثانية، وذهب الرفيق قبل الاجتماع ثم عاد يحمل صينية الشاي والكعك فتذكرت حينها تلك الصبية في شارع الكفاح.

في عيد تأسيس الحزب 31 آذار عام 1972 كلفت بتصميم بطاقات للمعايدة بالمناسبة، وكنت اتمتع بموهبة خطاط، فصنعنا عشرات من هذه البطاقات الملونة ووزعناها على الأصدقاء والمعارف في مدينة الثورة. من يومها تأكد البعثيون في المنطقة من هويتي السياسية (كشيوعي رسمي) ومن ثم بدأت الاعتقالات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزء من مادة طويلة عنوانها “تحولات شارع مريدي”.

عرض مقالات: