اخر الاخبار

 يوم الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1963 كان يوماً حزيناً، في حياة أبناء البصرة والعراقيين أجمعين، حيث اعتلى أرجوحة الموت بطلان من أبناء الحزب الشيوعي العراقي، نحو الشهادة بكل شمم وإباء وهما يهتفان بالمجد للشعب العراقي، وبالعلى لحزب الشهداء (فهد وحازم وصارم وسلام عادل) والمئات بل الآلاف من الشهداء.

نعم، كان يوماً حزيناً وكئيباً على وجوه البصريين، هذا اليوم الذي عشته عن قرب حيث حطَّ بي الرحال في صباح ذلك اليوم المشؤوم في محطة قطار المعقل بالبصرة التي لا تبعد عن ساحة ميناء المعقل سوى عشرات الأمتار، وأنا مكبّل اليدين بأصفاد الطغاة، بسبب استدعائي من قبل مديرية أمن البصرة، وأنا معتقل في سجن (نقرة السلمان) حينها.

علمت من الناس المتواجدين في محطة القطار بإعدام الرفيقين (عبدالله رشيد) و(كريم حسين)، اللذين كانا معي قبل عدة أيام في سجن (نقرة السلمان)، فتجمدت العروق وجحظت العيون وشُلَّ اللسان، لهول الخبر، باستشهادهم قبل ساعة من وصولي محطة قطار المعقل. فتذكرت لحظات التوديع في سجن (نقرة السلمان)، وقد اتسمت بأنهار الدموع ونحن نودّع الأبطال إلى طريق الشهادة، الذي أصبح واقعاً في ذلك اليوم المشؤوم، حيث لا زالت كلمات الشهيد (عبدالله رشيد) ترنّ في أذني بالرغم من مرور هذه السنين الطويلة قائلاً لي: ( يا عبدالقادر لا تبك نحن ذاهبون إلى الإعدام).

هكذا كانت معنويات البطلين الشهيدين (كريم حسين) و(عبدالله رشيد) وهما يودعان رفاقهم. ووفاء للشهيدين اللذين أعدمتهما السلطات المجرمة، نتحدث عن صفحات من مأثرتهما الملهمة.

كان الشهيدان (كريم حسين) و(عبدالله رشيد) من خيرة شباب البصرة، ومن الرياضيين البارزين حيث مارسا لعبة رفع الأثقال وبأدوات بسيطة في ثلاثينات القرن الماضي في حدائق ساحة أم البروم بالعشار (البصرة)، بسبب عدم وجود الأندية الرياضية حينذاك. ومن خلال التدريب والنشاط الرياضي، أصبح الشهيد (عبدالله رشيد) بطلاً في مجال لعبة رفع الأثقال، ومن ثم مدرباً. وبجهوده المتفانية، وأخلاقه والتزامه الرياضي، استطاع أن يكتشف من المواهب الواعدة في مجال رفع الأثقال الكثير من الرياضيين.

يعود الفضل في انتشار لعبة رفع الأثقال في البصرة إلى الشهيد (عبدالله رشيد)، واستطاع أن يكتشف ويرعى البطلين العراقيين (جميل بطرس) و(عبدالواحد عزيز)، وسواهما العشرات من الأبطال الرياضيين. وقد أحرز المرحوم (عبدالواحد عزيز) المركز الأول في بطولة آسيا عام (1957)، وأحرز الوسام الاولمبي الوحيد الذي يمتلكه العراق على مدى أكثر من خمسين عاماً في دورة روما الاولمبية.

ومن الجدير بالذكر أن الراحل (عبدالواحد عزيز) ساهم كعنصر فعال في مهرجان الطلبة والشباب في موسكو عام (1957)، مما أدّى إلى أن تحاربه سلطات النظام الملكي وتلقيه في السجن، إلا أن ثورة 14 تموز 1958 انقذت البطل الراحل عبدالواحد عزيز، وقد رأيته بأمّ عيني صبيحة ثورة 14 تموز يسير في مقدمة التظاهرة المؤيدة للثورة وهي تسير في أسواق البصرة.

تربى الشهيدان (عبدالله رشيد) و(كريم حسين) في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، حيث كانا يعملان في رصيف ميناء المعقل في البصرة، وأصبحا من الكوادر العمالية النقابية وبسبب نشاطهما الحزبي والنقابي، لم يهدأ بال للطغاة من المسؤولين في مديرية ميناء البصرة، فقد لفقت ضدهما تهم باطلة بالادعاء بأنهما من المساهمين في قتل المقبور (أنس طه)، الذي انتقم منه عمال رصيف الموانئ، بسبب نشاطه المعادي للجمهورية العراقية، حيث أُعتقلا في عام 1959 بسبب نشاطهما الحزبي والنقابي، وتم الحكم عليهما بالإعدام شنقاً حتى الموت، وأُلقيا في غياهب سجون البصرة ونقرة السلمان.

وعندما حان موعد تنفيذ الحكم عليهما بالإعدام شنقاً حتى الموت، بفترة قصيرة بعد سقوط زبانية البعث والحرس القومي في تشرين 1963، كان وداعهما وقت الرحيل حزيناً وباكياً من قبل رفاقهم السجناء الذين أحبوهما وأصبحوا إخوة لهما، فكانت كلمات وداعهما لسجناء نقرة السلمان، بالقول إن هذا الطريق اخترناه بمحض إرادتنا، وسنواصل المسير عليه بوجوه بيضاء وقلوب عامرة بحب الحزب والوطن.

وفي يوم شتائيّ بارد .. يوم الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1963، أعدمت السلطات المجرمة أمام مديرية موانئ البصرة، الشهيدين (عبدالله رشيد) و(كريم حسين)، وكان غرضها من ذلك تخويف وإرهاب العمال، ومحاولة كسر شوكتهم والتأثير على حسّهم الطبقي، كي لا يتخلوا عن مصالحهم الطبقية. وقد اعتليا أرجوحة المجد ليعانقا رفاقهما (فهد وحازم وصارم وسلام عادل)، والمئات من الشهداء. ونفـّذ بهما الطغاة حكم الإعدام شنقاً حتى الموت، وما كان من الشهيدين إلا ان يهتفا أمام مرأى الجماهير المحتشدة ومسمع إخوتهم عمال الموانئ وأبناء البصرة الذين اعترتهم مشاعر الغضب والاستنكار لهذه الجريمة النكراء. وردّد الشهيد (عبدالله رشيد) بصوته الجهوري الهتاف التالي :

(السجن لي مرتبه..

والقيد لي خلخال

والجنّبه (1) يا فهد

أرجوحة الأبطال)

من خلال هذه التضحية الجسيمة بالأرواح، ومن اجل أن يكون الوطن حراً والشعب سعيداً، ويُرمى الطغاة في مزبلة التاريخ، ولكون الشهيدين هما أول شهيدين رياضيين في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي. حبذا لو قامت الجهات المعنية بجعل هذا اليوم، يوم الشهيد الشيوعي الرياضي.

المجد والخلود للشهيدين (عبدالله رشيد) و(كريم حسين).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجنّبه : حبل المشنقة.

* المصدر ( من اعماق السجون .. نقرة السلمان قيود تحطمت)