في تموز من هذا العام 2025 مر على المندائيين العيد الكبير (دهفا ربا) والذي هو بمثابة عيد رأس السنة المندائية، والذي يبدأ بما هو معروف ب(الكرصة).. لذلك أعددت هذا المقال المبسط للتعريف بهذه المناسبة.
المقدمة:
يُعد طقس "الكرصة" أحد أبرز الطقوس الدينية في الديانة المندائية، ويقترن بعيد رأس السنة المندائية المعروف بـ "دهفا ربا" (العيد الكبير). يمثل هذا الطقس فترة عزلة روحية وجسدية تستمر 36 ساعة، يُنظر إليها كمحطة فاصلة بين العام المنقضي والعام الجديد، حيث تغيب الأرواح الحارسة عن الأرض.
تسعى هذه المقالة إلى تحليل هذا الطقس من حيث أدائه، وأبعاده اللاهوتية والرمزية، ومقارنته بتراثيات شعوب وديانات أخرى، مع الاستناد إلى مصادر المندائية الكلاسيكية وعلى رأسها "الكنزا ربا".
أولاً: السياق المندائي لطقس الكرصة
المرجعية النصوصية: كتاب "الكنزا ربا" (الكنز العظيم) هو المصدر المركزي في المندائية، ويحتوي على قسمين: اليمين (لاهوتي – خلق العالم) واليسار (طقسي – مصير الروح).
يُذكر طقس دهفا ربا بشكل مباشر وغير مباشر في سياقات تتعلق بصعود الأرواح النورانية (الأثيرية) إلى "ملك النور السامي" (هيبل زيوا) من أجل تقديم تقرير عن أعمال البشر.
تعريف الكرصة: هو فترة عزلة داخل المنازل تدوم 36 ساعة، تبدأ عند غروب الشمس الذي يسبق رأس السنة مباشرة. خلال هذه الفترة، لا يغادر المندائيون منازلهم، ولا يُسمح لهم باستخدام الماء الجاري أو الطبخ أو حتى قتل الحشرات، احترامًا للفترة التي تُعد "خالية من الحماية النورانية".
الفلسفة الكامنة: بحسب الاعتقاد المندائي، تغادر الأرواح الحارسة (مثل شيلماي وندباي) الأرض لتقديم تقاريرها إلى عالم الأنوار، مما يترك الأرض مكشوفة أمام قوى الظلام، ويجعل من العزلة وسيلة للحماية الروحية.
ثانيًا: الأداء الطقسي
- التحضير:
في اليوم السابق، يُعرف اليوم بـ "كنشي وزهلي"، ويقوم فيه الكهنة بإجراء طقوس المعمودية (masbuta)، وتُخزن كميات كافية من الطعام والماء.
- العزلة:
تبدأ عند رؤية نجم الشمال (دليل البداية)، وتستمر 36 ساعة. البالغون يُستحب لهم السهر وعدم النوم لتجنب التلوث الروحي. يُمنع ملامسة الماء الجاري، أو القتل، أو أي نشاط خارجي.
- الخروج والاحتفال:
بعد انتهاء الفترة، يتجمع المندائيون في المعابد (المنادي)، ويُجرى طقس استبشار، وتُقرأ تنبؤات السنة القادمة، وتبدأ المعايدات والاحتفالات الجماعية.
ثالثًا: الأبعاد اللاهوتية والفلسفية
ثنائية النور والظلام: المندائية ديانة ثنائية، ترى أن الإنسان يعيش بين عالمين: عالم الأنوار وعالم الظلام. في لحظة غياب الأرواح الحارسة، تتجلى سيادة الظلام على الأرض، مما يستدعي الانعزال دفاعًا عن النقاء الروحي.
الزمن الكوني: الكرصة ليست فقط عزلة مادية، بل توقف للزمن الرمزي، إنها فترة "لازمن" تتجدد فيها دورة الحياة. العالم يُعاد خلقه بعد عبور هذه الفترة.
الموت الرمزي والبعث: العزلة تشبه موتًا مؤقتًا، يعقبه ميلاد جديد مع السنة القادمة، ما يعكس فلسفة دورية تقوم على الفناء والتجدد.
رابعاً: مقارنات مع طقوس مشابهة
طقس الكرصة هو من أعمق التعبيرات الروحية في الديانة المندائية، يجسد مفاهيم الثنيوية والانتقال والوقاية من الشرور. عزلة لا تُفهم على أنها هروب من العالم، بل إعادة ترتيب العلاقة معه في ضوء الزمن الكوني واللاهوت النوراني. وعند مقارنته مع طقوس الشعوب الأخرى، يظهر الطقس المندائي متفردًا في جمعه بين البنية اللاهوتية الدقيقة والأداء الجمعي المنزلي الذي يمزج بين الخوف والتطهر والأمل.
خامساً: الخاتمة
طقس الكرصة هو من أعمق التعبيرات الروحية في الديانة المندائية، يجسد مفاهيم الثنيوية والانتقال والوقاية من الشرور. عزلة لا تُفهم على أنها هروب من العالم، بل إعادة ترتيب العلاقة معه في ضوء الزمن الكوني واللاهوت النوراني. وعند مقارنته مع طقوس الشعوب الأخرى، يظهر الطقس المندائي متفردًا في جمعه بين البنية اللاهوتية الدقيقة والأداء الجمعي المنزلي الذي يمزج بين الخوف والتطهر والأمل.
سادساً: المصادر
-
Drower, E.S. The Canonical Prayerbook of the Mandaeans (1959)
-
الكنزا ربا ( الكنز الكبير)
-
https://mandaeism.fandom.com
-
https://en.wikipedia.org/wiki/Dehwa_Rabba