اخر الاخبار

تسعون عاماً من غابة الكلمات الوطنية التقدمية؛ ليست قليلة ابداً، فهي عمر من الفكر الذي يمد الإنسانية بالوعي النير والتجارب الإنسانية الفذة إلى جانب ما يزرعه هذا الفكر من قيم الرفعة والمساواة والعدالة والنقاء والجمال كذلك.

تسعون عاماً وصحافة الشيوعيين توقد الشموع في ظلام دامس يحيط بها من كل الجوانب. هذه الصحافة الحية، لم تستسلم ولم تنكفئ على الرغم من كل العقبات التي لاحقت بهاء كلماتها، وشغيلة محرريها وكتابها وقرائها ايضاً. كان الإمساك بصحيفة "كفاح الشعب" في ميلادها البكر عام 1935 كمن يمسك بجمرة من النار.. ذلك ان كل السلطات المتلاحقة كانت تخشى ما ينشر فيها، بوصفها تحمل خطاب المعدمين والمهمومين والمضطهدين.

إنها لسان حال الطبقة العاملة.. الأساس في بناء الحياة، وإن كانت هذه الحياة غير ميسورة أمامها، بل على العكس من ذلك، كانت كل وسائل الاضطهاد والتعسف يلاحق هذه الطبقة التي تعبر عنها "كفاح الشعب" وسواها من المطبوعات المتلاحقة، وصولاً إلى منابر الشيوعيين العراقيين الثلاثة: "طريق الشعب، "الثقافة الجديدة"، "الطريق الثقافي" إلى جانب المنابر المنتشرة في محافظات العراق.

الشيوعيون.. بناة وعي وحضارة وتقدم، وسائلهم سلمية، ومنابر رسائلهم واضحة، تستقي من بئر النظرية الماركسية سبيلاً من سبل النضال الباسل الذي خاضته عبر كل هذه السنوات القاسية.

من هنا، كانت شغيلة الفكر.. هم اللبنة الأولى التي يتعلمها كل من يخوض النضال الباسل مع الشيوعيين.. ولهذا السبب، بات هذا الحزب، يعد المرجع الأهم، لدراسة جذور وآفاق الحياة الثقافية في العراق.. حتى أصبح العامل والفلاح يعدان وجودهما، وجوداً مقترناً بالثقافة، بوصفها الأداة الفاعلة والحية في نشر الوعي بين كل افراد المجتمع، وإعدادهم لتغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. وصولاً إلى شعار حي ما زال يشكل راهنية الصحافة الشيوعية ممثلاً بـ "وطن حر وشعب سعيد".

ذلك أن حرية الوطن مرهونة بوعي ودراية ونباهة أبنائه، ووصول الشعب إلى حياة سعيدة منشورة، لا يمكن ان يمر الا عن هذا الطريق، طريق الوعي المسؤول والعقل المضيء الذي لا يمكن ان يستسلم للنداءات المبحوحة والكاذبة التي تعمل على تشويه الخطاب الحي الذي تحمله الصحافة الشيوعية.

وفي تجربتي الشخصية مع الصحافة الشيوعية التي نمت بالقراءة النهمة لكل تفاصيلها، ورصد كل كلمة مضيئة فيها؛ تطور هذا الخزين المعرفي بهذه الصحافة إلى النشر فيها.

وكان نشر قصتي القصيرة " خوبي " في العدد 51/ آب 1973 من مجلة "الثقافة الجديدة" نقطة تحول كبرى في حياتي الشخصية ومسيرتي الثقافية، ذلك ان النشر في مجلة راقية مثل "الثقافة الجديدة" التي تحمل أسماء نجوم كالدكتور صفاء الحافظ (صاحب المجلة) ومكرم الطالباني (رئيس تحريرها) وشمران الياسري (مدير ادارتها) يعني الشيء الكثير.

وفي الفترة الزمنية ذاتها كانت "طريق الشعب" تنشر عمودي الصحفي بتوقيع (فلان الفلاني) وهو الأمر الذي كان يعني بالنسبة لي الشيء الكثير وجعلني أعمد إلى إشغال وجودي كله للارتقاء بمسؤوليتي الثقافية والمعرفية لكي أكون على قرب من الأسماء الكبيرة التي عرفت برصانتها ومكانتها ورفعتها ومسؤوليتها ونضالها الذي دفعت ثمنه السجون والملاحقات والتعذيب ومن ثم البحث عن وطن آمن يمكن للإنسان ان يتنفس فيها رأيه.

وبين حضور وغياب وصمت وحسرات ويأس واحباط والقليل.. القليل من الآمال.. ظل خزين تعلمته من صحافة الشيوعيين يعمر الرأس وينعش القلب ويملأ الروح انشراحاً حتى كان تاريخ العمل في "طريق الشعب" يوم 28/ 4/ 2019 ومن ثم في " الثقافة الجديدة " في 15/ 9/ 2019، من الأيام الخالدة في مسيرة حياتي الثقافية التي اتشرف بها وأعنى بوجودها وأخلص لها وأتفانى من أجلها..

نعم، كان العمل مع اسرة الجريدة والمجلة، عملاً يرقى إلى ان يكون من أبهى وأجمل وأغنى وأعمق الأزمنة التي عشتها عبر مسيرتي الصحفية التي بدأت منذ العام 1964.

إن زمن العمل مع الشيوعيين في صحافتهم الوطنية التقدمية لا يقترن بالساعات الكسولة، ولا بالجهد المضني أبداً، وانما كان وسيظل الوجود الثري، أباهي نفسي به وأعده من أكثر الأزمنة السعيدة والبهية التي عشتها حتى أجدني أردد مع نيرودا: " أشهد أني عشت" ذلك ان العيش مع الشيوعيين وصحافتهم.. عيش زاده الكلمة النقية والموقف النبيل.. وكلاهما مسار عمل ومسار حياة كذلك.