لم تكن جريدة طريق الشعب جريدةً تعلمتُ منها المبادئ الأساسية للصحافة فحسب، بل كانت لي مدرسةً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ جميلة.
(من ساحة الفردوس كانت البداية)
كان سقوط تمثال الطاغية حدثًا جللًا، حيث اقترب أمل عودة الحزب وجريدته الغرّاء طريق الشعب إلى ممارسة العمل العلني في الداخل، كما كانا دائمًا رأسَي حربة في النضال من أجل وطن حر وشعب سعيد. كذلك كان السقوطُ صرخةً مدويةً تُعلن بقوة زوال الطغيان إلى الأبد.
الرفاق المحتشدون في ساحة الفردوس كانوا يحدوهم الأمل بلقاء رفاق الأمس، رفاق الدرب القدامى، أيام كانت تجمعاتهم تحمل أجمل الذكريات الرفاقية رغم مرارتها؛ ذكريات التشرد والملاحقات المقرفة من لدن نظام قمعي جبان.
ولا أستطيع وصف سعادتي وأنا أرى تلك الجموع من الشيوعيين وأصدقائهم وسط الناس، وقد علت وجوههم ابتسامات الفرح والابتهاج، وهم يرفعون الأعلام الحمر وشعارات الاحتفاء بعيد العمال العالمي.
وفي الساحة ذاتها، وفي زاوية منها، جلستُ على أريكة هناك لأكتب ما يدور في خلدي عن هذا التجمهر الشيوعي الذي جمعهم والناس من مختلف المشارب في تظاهرةٍ كبيرة، بعد أن انقشعت ـ وإلى الأبد ـ غمّةُ نظام قمعي مقيت، ليحتفوا بعيد العمال العالمي.
جلستي هذه كانت أول الغيث في تحقيق حلمي بأن أكتب في جريدة الشعب.
وكان العنوان الذي اخترته: (مشاهد من ساحة الفردوس).
والمشهد الذي كتبته يبدأ من تساؤلٍ لرجلٍ من عامة الناس، أخذته الدهشة حين رأى الناس يملؤون ساحة الفردوس، وقد قدموا من كل صوبٍ في بغداد وضواحيها.
إذ قال متعجبًا:
"ما السر في تجمع الناس تتوسطهم الأعلام الحمر؟"
قلت له:
"سيدي، إنهم الشيوعيون وأصدقاؤهم يحتفلون بعيد العمال العالمي."
فرد عليّ الرجل ـ وما فارقته دهشته:
"عمي، الشيوعيين كلهم بالسجون، وبيهم من هرب ناجيًا بنفسه خارج العراق، وبيهم من راح لكردستان، وبيهم من ظل هنا يطارده الأمن. جا اشوكت التميتوا وترستوا الساحة أنتو وأعلامكم الحمر؟"
تركني الرجل متمتمًا، لا يكتم سروره بمشاركته الناس فرحهم الغامر.
كتبت هذا المشهد، ولما انتهيت، أعدت صياغته مرارًا حتى أيقنتُ بأنه اكتمل.
ثم توجهت به، مدونًا على الورق بخطٍ واضح، وسلّمته إلى مقر الحزب في منطقة الأندلس.
وبقيتُ أنتظر.
تأخر صدور الجريدة حينها بسبب العديد من المعوّقات؛ فقد كانت المواد الصحفية تُرسل إلى مقر الحزب في كردستان ثم تعود إلى الداخل بعد إنجازها.
وجاءت الفرحة...
ابتسامةُ فرحٍ لا توصف ملأت وجهي، حين رأيت موضوعي
(مشاهد من ساحة الفردوس)
يتوسط الصفحة الأخيرة من عدد الجريدة.
ومن هنا تحديدًا بدأت علاقتي بالجريدة، أي منذ اليوم الأول لصدورها في بغداد، كمحرر فيها.
وبقيت أعمل بها حتى عام 2009.