في تموز من عام 1973 وقّع الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم وثيقة الجبهة الوطنية، في ظروف شديدة الالتباس والحذر، ومسموعات، ووجهات نظر كثيرة عن النيات والضرورات، الامر الذي أخضِع (في ما بعد) الى بحوث ودراسات وتدوينات والى تقديرات ووجهات نظر، لا تدخل خاطرتي هذه ساحتها الآن، بل تلتقط من تلك الايام حادثة واحدة تصلح ان تكون مثلا، بالغ الدلالة، عن الرقابة البوليسية القمعية التي كانت السلطة تحيط عملنا ومهماتنا، وهي، الى ذلك، قلادة على صدر جريدة الحزب "طريق الشعب" التي كانت، قيادة وادارة ومحررين، تواجه عسفا يوميا، ومهمة وعرة، وهي تخوض معركة الدفاع عن قضايا الشعب والذود عن الثقافة الوطنية والخبز والحرية، إذ تعرض العاملون فيها، في غضون ست سنوات من عمرها العلني الى ابشع اعمال التنكيل والملاحقة والاعتقال، واستشهدت كوكبة من أروع ابنائها في امثولات بطولية لا نظير لها.
ففي اواسط شهر تشرين الثاني العام 1973 عُقد مؤتمر للجان الجبهة في المحافظات في قاعة الخلد، برعاية صدام حسين، وكنتُ قد انتدبت الى المؤتمر كمراسل لجريدة الحزب، وقد صودرت مني الاوراق والكاميرا، كما صودرت من جميع المندوبين، وزوّدنا بأوراق واقلام محدودة، ودخل صدام القاعة بطريقة استعراضية معروفة، ومن دون ترحيب تفرضه بروتوكولات اللقاءات الرسمية، تحدث عن مفهوم الحزب الحاكم للجبهة وذلك في عبارات متقطعة ومتضاربة ومفككة عدا عن انها تفيض بالغطرسة والمِنّة والتوعد، مشددا على "الدور التاريخي" لحزب البكر - صدام مع عبارات لوم مبطنة لمنظمات الحزب الشيوعي العراقي التي قال "انها لم تستوعب" مسؤولية "الحزب القائد".
وكنت احاول ان اسجل كل كلماته وعباراته، واحسب ان اي صحفي مهما أوتي من قوة التركيز وموهبة التسجيل السريع لا يخرج مما سمعه من كلمة صدام حسين بعشرة سطور متماسكة، وصالحة للنشر، في تلك الظروف، لكن الاهم هو ما بعد الكلمة، من اسئلة ومناقشات وما طرحة الرفاق، مندوبو الحزب، من وقائع التضييقات واعمال الاعتقال والتمييز من قبل اجهزة الامن ومنظمات البعث الحاكم، وطلب الرفيق الشهيد فكرت جاويد تفسيرات واضحة لسياسة الاقصاء والاعتقالات بحق الشيوعيين، وقد اغتيل بعد شهور من هذا اللقاء، وكانت مداخلة الرفيق عادل سليم حول تاريخ الحزب الشيوعي وافضاله على الحركة الوطنية العراقية قد استفزّت صدام فكان جوابه مليئا بالغل والتهديد والطاووسية الذاتية.
في مكتب الجريدة كنت استجمع من قصاصات الورق عبارات مناسبة تدخل في سياق التقرير عن المؤتمر، وقد بذلت جهدا مضنيا، الى ساعة متأخرة من الليل، لأكتب ما لا يزيد على نصف صفحة من كلمة صدام حسين التي حاول ان يجاري فيها ثقافة ومعارف الشيوعيين، باختيار جمل مُضحكة، تفتقر الى سلامة الحبكة ودقة النص عن لينين وماوتسي تونغ، وعززتُ التقرير بصفحة عن كلمات المندوبين الشيوعيين واسئلتهم، واستعنت بالرفيق، طابت ذكراه، الدكتور رحيم عجينة، المسؤول عن "العلاقات الوطنية" آنذاك، وكان حاضرا في هذا اللقاء، فرفع عبارات من التقرير، وأدخل بعض التعديلات والاضافات، ثم أجريت تحريرا أخيرا بأسلوب موحد لكي ينشر على الصفحة الأولى.
في ظهيرة اليوم التالي، طلبني الرفيق طيب الذكر عبدالرزاق الصافي، الى مكتبه، ففاجأني بالقول مبتسما: هاي شسويت؟ وكان على التلفون بانتظار مكالمة من طارق عزيز الذي سرعان ما سمعتُ صراخه على الجانب الاخر: من هو هذا المراسل الذي شوّه كلمة السيد النائب؟ ثم كيف تبعثون مراسلا الى مثل هذا اللقاء؟ وقد حاول ابو مخلص، بلباقته، ان يهدئ من "ثورة" المتحدث قائلا له: أستاذ، هذا تقليد صحفي معروف في كل صحافة العالم. ردّ طارق عزيز: ما عدنا هيج تقليد. عدنا وكالة انباء رسمية هي التي تغطي هيج لقاءات وعليكم نشرها نصا.. سنغلق جريدتكم.
عندما اختطفني رجال الامن بعد خمس سنوات أخبرني الجلاد في قبو التعذيب: عندنا معلومات انك حاقد على السيد النائب.
* بعد حوالي شهرين من هذا اللقاء صدر كراس عن مكتب "الاعلام القومي" يتذكره الاحياء آنذاك، بعنوان "خندق واحد.. أم خندقان" باعتبار انه نص كلمة صدام حسين في مؤتمر لجان الجبهة في المحافظات، وقد كان بمثابة عملية تلفيق افكار منمقة واستطرادات نظرية، وتعديات فاضحة على ذاكرة جميع الذين استمعوا الى هذيان صدام حسين، المبعثر، والهابط، وعُلم في ما بعد ان كاتبا موظفا بإمرة طارق عزيز قد سطّر صفحات ذلك الكراس، وغيره من كراريس صناعة الطاغية، وذلك قبل ان تكف تلك الوظيفة الذليلة عن النفع، ليجري، بعد سنوات، التخلص من صاحبها، عزيز السيد جاسم.