تُعدّ ثورة 14 تموز 1958 واحدة من أعظم الأحداث التاريخية في مسيرة الشعب العراقي، بما أحدثته من تحوّل جذري في البنية السياسية والاجتماعية، وتقاطعها مع نظام ملكي تابع، وهيمنة استعمارية طامعة بثروات البلاد.
لقد مثلت الثورة زلزالاً سياسيًا أطاح بالنظام الملكي البائد، وأربك القوى الاستعمارية وأجهزتها الاستخباراتية، إذ خرجت الجماهير العراقية إلى الشوارع مؤيدة ومباركة، في مشهد نادر الحدوث في المنطقة.
وفي كل عام تحلّ علينا ذكراها الخالدة، نستذكر باعتزاز الشهيد عبد الكريم قاسم، والقوى الوطنية، وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي، التي مهدت للثورة وقدّمت تضحيات جسيمة في مواجهة الحكم الملكي، ومنها شهداء الحزب الأوائل: فهد (يوسف سلمان)، صارم (حسين محمد الشبيبي)، وحازم (زكي بسيم) الذين أُعدموا عام 1949 وهم يهتفون: "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من المشانق".
دوافع الثورة
نشأت ثورة 14 تموز نتيجة تراكم طويل من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عمّقت التناقضات داخل المجتمع العراقي، ودفعت باتجاه تغيير جذري. فقد ترك الاحتلال البريطاني المتكرر للعراق في أعوام 1914 و1917 و1941 آثارًا بالغة، حيث فرض السيطرة على مقدرات البلاد وأخضعها لنفوذه الاستعماري، مما ولّد شعورًا عامًا بالرفض والتمرد.
تأثرت الساحة العراقية أيضًا برياح التغيير العالمي، لا سيما بعد اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، والتي نشرت أفكار العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستغلال، فتغلغلت هذه المفاهيم في أوساط المثقفين والعمال. تكررت بوادر الغضب الشعبي في ثورة العشرين، حيث هبّ العراقيون ضد الاحتلال، وسرعان ما أصبحت هذه الروح الوطنية عنوانًا للمرحلة اللاحقة.
المعاهدات السياسية المفروضة مثل معاهدة 1930 وما رافقها من انتفاضات، كحركة الفرات الأوسط عام 1935، أظهرت عمق السخط على الحكم الملكي المتواطئ مع القوى الأجنبية. الانقلاب الذي قاده بكر صدقي عام 1936 بعث آمال بتغيير قادم، رغم أنه لم يحقق الإصلاح المنشود. وفي العقود اللاحقة، تصاعدت الحركة العمالية، كما حدث في مجزرة كاور باغي ضد عمال نفط كركوك عام 1946، وأحداث H3 في حديثة سنة 1947، حين استُهدف عمال النفط بالرصاص الحي.
عام 1948، شهد العراق انتفاضة كبرى أسقطت معاهدة بورتسموث، فيما كانت وثبة تشرين عام 1952 تتقدم خطوة أخرى نحو التمرد الشعبي الذي أطاح بحكومة مصطفى العمري. من جهة أخرى، مثّل تأميم النفط في إيران بقيادة مصدق عام 1951 نموذجًا إلهاميًا للعراقيين، تلاه تأثير كبير لثورة يوليو المصرية عام 1952 التي أسقطت الملكية، ما عزز مناقشة فكرة التغيير الجذري داخل العراق.
في خضم هذا المدّ، تشكل تنظيم الضباط الأحرار بقيادة عبد الكريم قاسم عام 1952، ليعكس حالة التململ داخل الجيش. وتكررت الاحتجاجات والانتفاضات، منها إضراب عمال نفط البصرة عام 1953، وانتفاضة 1956 التي اندلعت تضامنًا مع تأميم قناة السويس في مصر. كما شهد عام 1957 ميلاد جبهة الاتحاد الوطني التي ضمت قوى وطنية يسارية وقومية، بالتزامن مع خيبة أمل واسعة من أداء الملوك العرب خلال حرب فلسطين 1948، والتي دفعت ضباطًا عراقيين إلى التساؤل حول مصير الوطن ومَن يحكمه.
منجزات الثورة
ورغم أن ثورة 14 تموز لم تستمر طويلًا، إلا أن أثرها كان عميقًا وتحولاتها مفصلية. ففي اللحظة التي أُعلنت فيها الجمهورية وأُطيح بالنظام الملكي، دخل العراق عهدًا جديدًا. أحد أبرز التحولات تمثّل في الانسحاب من حلف بغداد الاستعماري، مما أتاح للبلاد التحرر من التبعية الخارجية والبدء بتحديد سياساتها بشكل مستقل.
اجتماعيًا، أقرّت الثورة قانون الإصلاح الزراعي الذي وزّع الأراضي على الفلاحين وقلص سطوة الإقطاع. أما قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، فقد اعتُبر إنجازًا غير مسبوق، إذ ساوى بين المرأة والرجل في الحقوق، وألغى التمييز الطائفي والديني في مسائل الأحوال الشخصية، ما أتاح للمرأة العراقية أن تسترد مكانتها في المجتمع وتشارك بفعالية في الحياة العامة.
السياسة الجديدة شملت أيضًا إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء قرارات نفي المعارضين، وإعادتهم إلى أعمالهم، مما خلق مناخًا أكثر انفتاحًا. أما على الصعيد الاقتصادي، فشهدت البلاد خطوات لتشجيع الصناعة الوطنية، وتأسيس مصانع استهلاكية لتشغيل الأيدي العاملة، وزيادة رواتب الموظفين والعمال، وتطبيق قانون الضمان الاجتماعي.
الثورة لم تهمل استعادة الحقوق السيادية، حيث تم انتزاع جزء كبير من سيطرة الشركات النفطية الأجنبية عبر إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي استعاد أغلب أراضي الامتيازات غير المستغلة، وفتح المجال أمام الدولة لإدارة ثروتها.
في مجال الإعمار والسكن، بُنيت مدينة الثورة لإسكان الفقراء والفلاحين المهجرين، وتم توزيع آلاف قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود. كما جرى دعم التعليم العالي عبر تأسيس جامعة بغداد برئاسة العالم عبد الجبار عبد الله، إلى جانب توسيع الخدمات الصحية والتعليمية لتصل إلى الشرائح المهمشة.
اقتصاديًا، فتحت الثورة باب الاستيراد والتصدير، وسُمح بقيام النقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، وتم تحديد ساعات العمل اليومية بثمانٍ، وهو ما شكّل تطورًا في قوانين العمل آنذاك.
الثورة أيضًا لم تغفل البُعد التحرري، فقد أُعلن تشكيل نواة جيش التحرير الفلسطيني، تأكيدًا على التزام العراق بدعم القضية الفلسطينية، وهو موقف انسجم مع السياسة التحررية التي تبنتها الثورة في مجمل توجهاتها.
المرأة وثورة تموز
شكلت الثورة لحظة فارقة في مسيرة المرأة العراقية؛ فكان تعيين الدكتورة نزيهة الدليمي كأول وزيرة في العالم العربي (وزيرة البلديات في 14 تموز 1959)، علامة على دخول المرأة ميدان العمل السياسي. وساعدت الثورة في:
تمثيل المرأة العراقية دوليًا، ومنها مشاركتها في الأمم المتحدة.
السماح بتأسيس رابطة المرأة العراقية، التي ترأستها الدكتورة نزيهة، وكانت قد تأسست عام 1952 سرًا، وضمت مثقفات ومناضلات مثل سافرة جميل حافظ وبشرى برتو وغيرهن.
إقرار قانون الأحوال الشخصية الذي ساوى المرأة بالرجل في الميراث وشهادة المحاكم، وأكّد مكانتها في المجتمع.
إنّ ثورة 14 تموز لم تكن مجرد حدث عابر، بل محطة مفصلية في نضال الشعب العراقي من أجل التحرر والاستقلال والسيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية. وستبقى منارة مضيئة في ذاكرة الأجيال القادمة، ومصدر إلهام لكل الساعين إلى بناء عراق حر ومتقدم.