اخر الاخبار

الشعوب الحية وحدها هي التي تكتب التاريخ، خلافاً لما تنسجه الحكومات من تزوير توهم بأكاذيبها الأجيال التي لم تعاصر مراحل الصراع السياسي، والتي شهدت العديد من الوقائع البطولية التي سطرها شيوعيو العراق.

برغم تجاوزه العقد الثامن من العمر، إلا أن ذاكرته لا تزال شابة طرية متقدة، وهو يروي لنا عبر هذا اللقاء الذي جرى معه في مقهى شعبي بمدينة العمارة، اعتاد ارتياده، حدثاً لم نسمعه من قبل.

إنه المناضل الشيوعي عبد الواحد محمود بداي (85 سنة)، قضى معظم حياته مناضلاً ملتزماً منذ بداية شبابه، مرورا بحصوله على عضوية الحزب في أواسط الستينيات، واستمراره بالعمل في تنظيمات الداخل بمدينة كربلاء قبل سقوط نظام البعث في نيسان 2003.

عرفنا الكثير عن النفق الذي أنجزه مناضلو الحزب في سجن الحلة المركزي عقب انقلاب شباط 1963، والذي لا يزال أثره خالداً، لكن ما لا تعرفه هو قصة حفر نفق أقدم عليه مناضلو الحزب ممن تسللوا إلى إيران وقبض عليهم جهاز السافاك. برغم فشل العملية، يحدثنا المناضل عبد الواحد هنا:

بدأ العمل في حفر نفق بسجن باغ مهران الواقع على جبل عالٍ في العاصمة الإيرانية طهران، وتحديداً في شهر أيلول من العام 1963. وهو ذاته السجن الذي اعتقل فيه الشيخ خزعل، شيخ إمارة كعب، كما شهد اعتقال شخصيات وطنية ويسارية من جنسيات مختلفة.

ضم السجن 111 مناضلاً شيوعياً ألقت عليهم سلطات السافاك القبض. وكانت فكرة حفر النفق من اقتراح الرفيق الشاعر مظفر النواب، بمشاركة صاحب الحميري، عريبي فرحان، عبد الواحد مطشر، سعيد مطشر، فاضل رشم، والمتحدث عبد الواحد.

احتوى السجن سرداباً تفضي نهايته إلى الشارع العام، فاقترح علينا مظفر رشه بالماء، ثم بدأنا الحفر بواسطة معالق الطعام (خواشيك صفر). وبعد عمل حذر ومواصل لمدة شهر ونصف، تمكنا من سحب حجر كبير جداً.

وفي ليلة شهدت تساقط كثيف للثلوج، أبلغنا مظفر بقرار المغادرة عبر النفق في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، إذ كانت المجموعة المنوي خروجها تضم 22 رفيقاً. اقترحنا عليه أن يكون أولنا في العبور عبر النفق، فوافق على ذلك. وكان النفق قد اتسع بعد إزالة ثلاثة أحجار إضافية إلى الحجر الأول، لكنه عاد إلينا زاحفاً ليخبرنا بأن السلطة أحكمت قبضتها في الشارع المؤدي إلى النفق، حيث شاهد عددًا من الحرس (جندرمة) مدججين بالسلاح، وكلاب بوليسية، ودوشكة منصوبة بدقة نحو البناية.

ويستطرد عبد الواحد موضحاً أن اكتشاف العملية جاء عن طريق وشاة السجن، مما دعا الإدارة إلى تفريقنا في غرف انفرادية لمدة أسبوع، وبعد ذلك بشهر ونصف، أطلت علينا الإدارة لترحلنا مكبلي الأيدي، وزجتنا في سيارات توقفت بنا عند محطة قطار المحمرة، حيث ترجلنا، وتم ربطنا في مقاعد القطار تحت حراسة مشددة.

حين بلغنا منطقة "السيبة"، استقبلتنا قوة عسكرية عراقية، وهنا اقترح علينا مظفر أن نتشكل على هيئة (زنجيل) لنموت سوية حال إطلاق النار علينا، إلا أن ذلك لم يحصل، حيث صاح بنا عسكري برتبة رئيس عرفاء من القوة قائلاً:

"رفاق.. لا نخاف، فقد انتهى الحرس القومي."

وبحسب عبد الواحد، كان هذا العسكري شيوعياً عارفاً بأمرنا بدلالة مناداته لنا بـ "رفاق".

وصلنا إلى البصرة، وقامت إدارة سجنها المركزي بتوزيعنا كل إلى محافظته، ليستقر بي الحال في مركز شرطة الهادي بمدينة العمارة.

المحزن أن والدي توفي إثر حادث سيارة بينما كان يريد مواجهتي وأنا في طريقي إلى العمارة.

أما المفرح، فقد بقيت شيوعياً، ورأيت سقوط حكومة البعث بعد كل هذا العمر.

ختتم هذا المناضل حديثه الممتع معي.