اخر الاخبار

طريق الشعب البوابة الاولى التي عبرت منها الى مهنة البحث عن الحقائق، والبعض قالها مهنة البحث عن المصاعب او المشاكل، وتوالت التسميات حتى وصلت الى كونها السلطة الرابعة، وتعدت ذلك الى ان صارت في الكثير من الانظمة تتسيد الموقف السياسي وتحدد مساره بترويجها الايجابي او السلبي مع او ضد هذه الجهة او تلك، مثلما يحصل في عراقنا اليوم عندما تخلى الاعلام عن موقفه المحايد وسلك طريق الانحياز المشوب بالعثرات والمخاطر والتهلكة. ولهذا فقد الاعلام الكثير من حرفيته ومهنيته وموضوعيته واكتسى بملابس التهريج رافعا بوقه نحو الذي يدفع اكثر، او الذي يصرف المال الممول وبالتالي يأمر بما يكتبه خادمه اقصد الصحفي.

قبل سبع واربعين عاما دخلت فتاة عشرينية مبنى جريدة “طريق الشعب” لتتعلم القواعد الاساسية في مهنة أحبتها، وارتبطت بها حتى تلك اللحظة، كانت البنت طالبة في كلية الادارة والاقتصاد، هذه الفتاة (أنا)، التي كنت يومها أرتجف خوفا من هيبة المكان ومن الاشخاص الذين سيقودوني الى الطريق المؤدي الى اسلوب كشف الحقائق، ورهبة من مهنة قد تقودني آنذاك الى السجن، وربما التصفية كما فقدنا لاحقا الكثير من أحبتنا وزملائنا بتهمة انهم يعملون في جريدة “طريق الشعب”، عدو السلطة يومذاك.

قبل هذا الدخول لم اكتب سطرا لجريدة او مجلة، لكني كنت قارئة نهمة واكتب مذكراتي اليومية، مسجلة انطباعاتي عن الاصدقاء والصديقات، الذين اكتشفت لاحقا اني ظلمت البعض منهم، ومنحت ثقتي لغير الذين يستحقونها.. الكتابة عندي آنذاك تدور حولي ومشاعري وعن محيطي، لكن عملي بالنشاط النسوي، غير مسار كتابتي وعلمني ان اتحرر من اطار الذات لأكتب عن الاخرين، فبدأت اكتب مذكرات اوجاع الشعب وهمومه، وابحث عن الآلام والحاجة لاكتب عنها، وهنا نسيت عالمي الشخصي لانتقل الى عالم اوسع.

كنا في بداية السبعينات نخرج كمجموعات ونتوزع على المناطق الفقيرة في بغداد ومحيطها، لاقناع العوائل بتسجيل ابنائها وبناتها بالمدارس، وكُلفت وقتها بكتابة تقارير عن هذه الزيارات، التي اكتشفت لاحقا ان بعضها نشر بالجريدة.

لم يكن جو عائلتي بعيدا عن هذا الحقل، فوالدي عنده محاولات شعرية وصحفية، وكتب المسرحيات التي مُثّلت محليا في مدينتنا (النجف) كما اعتقد او في الحلة، وأخي زهير الجزائري صحفي وكاتب منذ صباه. لكن دخولي هذا الحقل لم يكن عبرهم، بل عبر مسؤولات في رابطة المرأة العراقية، وأخص بالذكر الشهيدة عايدة ياسين والراحلة بثينة الشريف. فبعد قراءة التقارير التي كنت اكتبها عن زياراتنا الميدانية قررتا ترشيحي الى الدورة الصحفية التي نظمت في الجريدة طريق، والتحقت بها، فكنت اذهب لجامعتي صباحا، والتحق بالدورة مساء.

من هنا بدأت، ومن هذا المبنى المهيب، الذي أقلق سلطة البعث كثيرا، من هذه البوابة عبرت الى عالم الصحافة، الى ضوء الحقيقة، والى عالم ملغوم بالمخاطر، لأني عملت في جريدة لا تمثل السلطة، بل تراقب اداءها وتكتب عن نواقصها، فصارت الجريدة مثل كابوس يراود احلام المسؤولين آنذاك، وبات رجال الامن يلاحقون العاملين داخل المبني عبر اساليب مختلفة ويتابعونهم حتى بيوتهم.

ولأني اعمل بهذه الجريدة فقد تعرضت لمضايقات كثيرة في الجامعة من قبل عناصر الاتحاد الوطني.

المرأة الوحيدة

الدورة التي التحقت بها ضمت عشرين مشاركا وكنت المرأة الوحيدة بينهم (كما ترون في الصورة المرفقة مع المقال).

وبعد الانتهاء من الدورة التحقت بالعمل مباشرة، فكنت طالبة جامعية صباحا وصحافية مساء وبنتا مطيعة عند أهلي، لان عملي بدأ يقلقهم ويزداد كلما توتر الوضع السياسي وتزايد الضغط على معارضي السلطة.

“طريق الشعب” آنذاك اتبعت اسلوبا في العمل لم أجده او أسمع عنه في صحف اخرى، مثلا الدورات التدريبية والتطويرية، برنامج الستة أشهر، والذي يتم باجتماع عام لكل العاملين والمراسلين من المحافظات لمناقشة عمل الجريدة ومقترحات لتطويره وتجاوز الاخطاء، حيث يقدم كل قسم عناوين تحقيقات، مقابلات، بحوثا او دراسات عن ظواهر اجتماعية او فكرية، وذلك لوضع برنامج للجريدة لمدة ستة أشهر باستثناء المواضيع التي تحدث آنيا او غير المتوقع حصولها خلال الستة أشهر.

تنقلت في العمل بين التحقيقات والمقابلات في صفحات: المرأة، حياة الشعب، منوعات، صفحة الاطفال. وهذا التنقل يبدو انه مخطط له، وذلك كي نتدرب على مختلف انواع الفنون الصحفية، عدا الاخبار التي لم اكتبها ولم اعمل بها ابدا، لكني تعلمت الفنون الاخرى.

انا مدينة لمدرسة “طريق الشعب”، التي تدربت فيها مهنيا واخلاقيا على أصول المهنة التي لم ازاول غيرها ابدا رغم اني اقتصادية أكاديميا، هذه المدرسة بوابتي الاولى نحو الصحافة، وكذلك مدينة للـ MBC مدرستي الاولى في عالم الاعداد والاخراج التلفزيوني..

صحافة.. تمثيل.. فلاحة..

بعد سبعة واربعين عاما لا أستطيع ان اتخيل نفسي في مهنة اخرى، رغم اني أحببت المحاماة، والتمثيل، والرسم، واليوم افكر ان أصير فلاحة وافتتح مشتلا للنباتات التي اعشق زراعتها والعناية بها. ورغم هذا التنوع لكني لا أجد نفسي الا في مهنة الاعلام، والتي للاسف فقدت اهم قواعد مهنيتها واخلاقيتها بعدما دخل بواباتها من هبّ ودب. فقد تحولت هذه المهنة الى صناعة نجوم ودمى مزينة لا تفقه من هذه المهنة الا بريق الاضواء التي تخبو بسرعة عندما يكشف ضوء الحقيقة المستوى المتدني للكثير من الاعلاميين، الذين تمر شهورهم دون ان يُفتح كتاب بين ايديهم، وعقولهم منغلقة امام اي معرفة او فكر عدا جمال الظهور والراتب وتملق المسؤول كي يسوق بضاعته في سوق نخاسة اعلام هذا الزمن.

عرض مقالات: