اخر الاخبار

في لحظة كان يُفترض أن تكون بداية جديدة لحياتها الشخصية والمهنية، خطفها الموت بصاروخ، لكنها بقيت حاضرة بعد رحيلها، بصورتها وكاميرتها وقصتها التي تتردد في أروقة المهرجانات السينمائية العالمية.

المصوّرة الفلسطينية فاطمة حسونة، التي كتبت قبل أسابيع: "إذا متُّ، أريد موتاً صاخباً يسمعه العالم، وأثراً يبقى عبر الزمن"، رحلت فعلاً كما أرادت، شهيدةً الضوء والصورة، قبل أيام من موعد زفافها، وقبيل عرض فيلمها الوثائقي في مهرجان كان السينمائي ضمن قسم ACID للأفلام المستقلة.

" ضع روحك على كفك وامشِ".. بهذا العنوان الذي يبدو وكأنه وصية أكثر منه اسم فيلم، توثق المخرجة الإيرانية سبيدة فارسي يوميات فاطمة داخل غزة، منذ بداية الهجمات الإسرائيلية، حتى اللحظات الأخيرة من حياتها. الفيلم الذي يأخذ شكل سيرة حية في قلب النار، يعكس شجاعة امرأة قررت أن تجعل من العدسة سلاحاً للمقاومة، ومن توثيق الألم فعلًا من أفعال الحياة. كانت فاطمة حاضرة بالكامل في العمل، ليس كمصوّرة فحسب، بل كموضوع، وكصوت، وكبطلة أرادت أن تقول شيئًا عما يحدث في غزة، وأن تترك أثراً لا يُمحى.

قُتلت فاطمة في غارة جوية استهدفت منزل عائلتها في شارع النفق بمدينة غزة، تاركة خلفها قصة لم تنتهِ، بل تحوّلت إلى أيقونة في مهرجان عالمي، كان من المفترض أن تشارك فيه، وأن تمشي على سجادته الحمراء مرتدية ثوباً أبيضَ لطالما حلمت به كعروس. كانت قد فقدت 11 فردا من عائلتها في كانون الثاني 2024، لكنها أصرت على الاستمرار في العمل وتوثيق حياة الناس وسط الحصار والقصف، مدفوعة بإيمان عميق بأن الصورة قادرة على أن تقول ما لا يقال، وأن تفضح ما لا يُرى. المخرجة سبيدة فارسي، التي تعاونت معها لأكثر من عام، عبّرت في بيانها عن حزنها العميق لفقدان فاطمة، ووصفتها بأنها " شخصية مضيئة، مبتسمة دوماً، وتحمل تفاؤلًا طبيعياً رغم كل شيء". وأشارت إلى أن آخر مكالمة جمعتها بها كانت قبل يوم من استشهادها، حيث كانت تنوي إخبارها بالنبأ السار: لقد تم اختيار فيلمكما للعرض في مهرجان كان. لكن الموت كان أسرع.

ابن عم فاطمة، حمزة حسونة، روى تفاصيل اللحظة القاتلة: " كنت جالساً حين سقط صاروخان، أحدهما في غرفة المعيشة حيث كانت فاطمة. انهار المنزل، وتحوّل كل شيء إلى أنقاض. لم نستوعب ما جرى إلا عندما أخرجنا الجثث". هكذا انتهت حياة المصورة الشابة، لكن فيلمها بدأ منذ تلك اللحظة حياة جديدة، كصرخة عالية في وجه العالم، وكوثيقة بصرية من امرأة تمسّكت بالكاميرا حتى النهاية.

مشاركة الفيلم في مهرجان كان هذا العام تحوّلت إلى فعل رمزي يتجاوز البعد الفني. إنه حضور سياسي وإنساني، يذكّر جمهور السينما أن وراء كل فيلم قصة حقيقية، ووراء كل لقطة شهقة، ووراء كل اسم على الشاشة حياة قد تكون أُطفئت عمداً. صوت فاطمة سيظل يتردد، ليس فقط في صالة العرض، بل في الذاكرة البصرية للقرن الواحد والعشرين.

لقد أرادت فاطمة "موتاً يسمعه العالم"، وها هو مهرجان كان يصغي إليها. وكأنها تقول من على بعد آلاف الكيلومترات، ومن تحت الركام: أنا هنا.. عدستي ما زالت مفتوحة