اخر الاخبار

يبلغ حد السكين العظم ونتشرب علقم المرارة صفحة إثر أخرى ونحن نقرأ كتاب حسب الله يحيى “ دروس في العذوبة والعذاب” الصادر أخيرا عن منشورات اتحاد العام للأدباء والكتاب بواقع 145 صفحة

لئلا تخونه الذاكرة وليوقد شموعا لذكرى استشهاد أخيه المناضل وعد الله يحيى النجار عمد الكاتب الى  تسطير سيرته ومآثره النضالية لتبقى شاهدا على زمن لم يبخل فيه الشيوعيون الأصلاء بكل ما حملوا من نبل وعناء وما قدموه من دماء وأرواح قرابين من أجل نصرة العدالة الاجتماعية والمساواة في وطن حر وشعب سعيد.

بنيران ألم معتق اكتوت بها أغلب قوى التقدم والتحرر في بلدانا، سطر الكاتب مفردات محملة بعذوبة شفيفة وبعذاب مبرح في آن واحد وكأن الحياة لا تستقيم إلا بمزيج من قرابين الألم والمعاناة والفرح الشحيح الذي يكاد لا يُذكر.

ارتهن الكاتب لأثر الشهيد البالغ في صياغة شخصيته وزرع ووشم الكلمات في أعماقه ما دفعه لإضاءة جوانب من تلك الشخصية البطولية ولنتعلم منها جميعا مبادئ صاغها بعشرين درسا أخلاقيا ونضاليا، رسمت بغابات من المحبة وبآفاق رحبة من الألحان العذبة.

دروس حياتية تعالج الخطأ بالحوار المنيع وبحجج تضيء العقل وتقَّوم الشخصية، تعلمنا مثلا احترام المرأة وحفظ خصوصية التزاماتها الحزبية، الصبر بمواجهة الصعاب وكيفية التخلص من المواقف الحرجة بحنكة وبنكران ذات، توخي الحذر بانتقاء الكلمات “ احذر .. الكلمات بالنسبة لأعدائنا أمضى من السلاح.. نحن لا نتسلح بدماء الآخرين، نحن نضيء دروب الناس حتى يتوجهوا إلى الخير والعدالة والرفاه والمساواة..” ص 15

ويحاجج الكاتب أخيه بالقول” أنتم تؤمنون بغصن زيتون وحمامة سلام ومطرقة عامل ومنجل فلاح وغابات من الكلمات .. كل هذه العدّة التي تعملون بها هل بمقدورها مواجهة طلقة واحدة تنطلق من عدو سيء السمعة إليكم؟

ويجيبه بثقة العارف واطمئنانه بأن المقارنة صعبة وأن لابد من ملاحظة الحدائق، فكم مرة يقطعون خضرة الأرض ومع ذلك ينمو “الثيل” وكم يصطادون من أسماك أنهارنا لكن الأسماك تتكاثر من جديد..

يصف الكتاب مكابدة أهل الشهيد في متابعة ولدهم في سجون الموصل المركزي وبعقوبة والبصرة، وكيفية تجشمهم عناء توفير ما أمكن من طعام لسد حاجته رغم عناده في الإضراب عن الطعام لمدة 19 يوما في أحدى صولات نضالاته.. و يضيء أيضا مساهمته في النشاط الحزبي وإيصاله رسائل أخيه إلى خارج السجن رغم عدم انتمائه شخصيا للحزب الشيوعي، فضلا عن دوره في مؤازرة الأسرة في التحفظ على إخفاء مناضل شيوعي في المنزل لسنوات، والمساعدة في ضم طابعتين لطبع المناشير الحزبية في المنزل وتوزيعها متجاوزا خطورة الأوضاع ببسالة وإقدام.

وبتفاصيل دامية يصف الكاتب ليلة إعدام الشهيد ذاكرا “ في الوقت الذي انصرف فيه أربعة عوائل لدفن أبنائهم الذين أعدموا فجر يوم 24 - 8 - 1964 وهم (وعد الله يحيى النجار ومحمود التمي وطارق الشهواني وهاشم جعب) كنت أقبع في سراديب التوقيف الذي بني في أعلاه مركز شرطة باب الشط في الموصل..

ثم يصف كيفية تعاطف بعض رجال الشرطة مع محنته إذ يذكر له معاون الشرطة بعد أيام من التعذيب والترهيب وقبل إطلاق سراحه قائلا” ابني حسب عليك أن تفتخر بأخيك ورفاقه.. لقد ذكر الحراس إنه توجه إلى المشنقة بشجاعة.. وكان كل واحد من الأربعة يريد أن يسبق صاحبه .. وكأن الواحد منهم سيصعد سلم طائرة ويطير في أجواء بهية” ..وينسى أوجاعه ويتساءل” هل كانوا يريدون الموت بعد أن يئسوا من الحياة؟

يجيبه: لا.. لا يا ابني هذا الطراز من الثوار والمعارضين والمبدئيين، لا يريدون أن يضعفوا أمام الموت، ولا يريدون أن يساموا الموت على حساب المبادئ والأفكار التي يؤمنوا بها ويضحون من أجلها”،

ويسأله: وكيف كان موقف وعد الله..؟

يجيبه : كان أكثرهم شجاعة ، كان يتقدمهم ويشد أزرهم.. كان الإعدام بالنسبة إليه يعادل الحياة.. كانت الحياة نفسها هي التي ستجعل الآخرين يجدون في تضحيته ورفاقه سبيلا إلى حياة أفضل وأكثر إشراقا وبهاء وأبهى عطاء “ ص 86-85 - 86

في السطور التي أراد الكاتب أن ينقذها من النسيان أيضا، يوضح الكاتب نقاشاته مع الشهيد حول الدين والشيوعية، والستالينية، وعن التحالف مع الأحزاب المناوئة، وحول التجارة والأمانة وأخلاقيات المهنة وتعامله مع مهنته النجارة ومد يد العون للآخرين للحصول على رزقهم، وعن كيفية تقديم الآخرين على النفس حتى وإن كان على حساب عواطفه الشخصية.

مؤكدا القول” إننا حملة أغصان زيتون وحمامات سلام .. ونحن نزرع أفكارنا على المحبة والإقناع .. ومع ذلك يخشون وجودنا”. ص124.

عرض مقالات: