رواية العيش على الصراط، للكاتبة ناهدة جابر جاسم، واحدة من الروايات التي توثق جزءا من حياة الشيوعيين العراقيين بالمنفى (الجبل) في ثمانينيات القرن الماضي، في الرواية التحدي للصعاب، وعشق الوطن، وحلم تحقيق وطن حر وشعب سعيد للناس الفقراء والطبقات المسحوقة من العمال والفلاحين، وفي تحد للدكتاتور وحزبه الذي يتحكم بالوطن المسلوب الإرادة الذي ادخله في متاهات الدول الاستعمارية وبالتعاون مع الرجعية وتبذير أموال هذا الشعب من أجل تحقيق رغبات شخصية الدكتاتور، سرد جميل وبلغة شفافة بسيطة تكاد تقترب إلى العامية، ما يميز هذه الرواية إلى السيرة الذاتية أو بين الاثنين تكاد تقترب إلى مذكرات شخصية، وفي هذا الصدد أود أن اذكر بأن ما يميز السيرة الذاتية هو المصداقية وبكل عفوية، أما في الرواية هو الخيال مع الواقع او الاحداث التي يمر بها الروائي، أما النقطة الثانية وهي الرواية يكون بطلها في أغلب الأحيان انسانا عاديا أما في السيرة الذاتية يكون بطلها قائدا أو سياسيا ولهذا تكون أشبه بالملحمة، أما النقطة الثالثة في هذه الرواية هي أن الكاتبة مرة تكون راوية ومرة تكون البطلة.
في رواية شرق المتوسط للروائي عبد الرحمن منيف التي صدرت له في سنة 1975، التي تعتبر من الروايات السياسية الرائدة تطرقت بكل جرأة لحال المعارضة السياسية في بلدان الشرق الأوسط دون تحديد أسماء أو مدن، وهي عبارة عن رسائل او مذكرات كانت ترسل للكاتب وتمكن من جعلها رواية كبيرة في وقتها ولازالت.
ناهدة جابر جاسم فتاة من محافظة الديوانية، وفي مرحلتها الأولى من المراهقة بسيطة عاشقة للإنسانية، متفائلة والبسمة على وجهها، المتلهفة بمساعدة الفقراء وتحقيق المدنية الفاضلة والعدالة الاجتماعية للمجتمع، تنظر الحياة كالطيور والعصافير لتمتعها بالحرية، كما تقول (أريد ان أعيش كحياة الطيور لا كحياة البشر! إن مت أريد أن أموت واقفة كالأشجار!، دخلت معترك العمل السياسي من خلال ابن عمها الذي أعطاها كراس مناضل الحزب وهي النشرة الداخلية التي تخص العمل التنظيمي للحزب الشيوعي العراقي في عام 1977 كانت في الصف الخامس الاعدادي، منذ هذه اللحظة تعلقت بالحزب والعمل التنظيمي، في عام 1978 وفي السنوات الأولى من مراهقتها أحبت سلام أخ صديقتها سلمى كانت طالبة معها في المدرسة الإعدادية، وعشقته عشقا جنونيا وبادلها المشاعر والإعجاب عبر تلفون سلمى أخت سلام (الأرضي) المتوفر في السنوات السابقة.
تقول في عنفوان الحب والمقاومة (شعرت في لحظة عثوري على الشخص الذي يجعلني سعيدة تماما حتى لو كنت أموت جوعا أو فقرا معه في أشد ظروف الحياة)، من هنا جاء قرارها بالذهاب مع زوجها إلى الجبل والعيش مع المناضلين وحمل السلاح ضد الدكتاتور، فعلا هذا ما حصل في خضم التجربة التي عاشتها كانت قوية الروح، شديدة المراس ومحبة ولكنها بسيطة وعنيدة، بالرغم من صغر سنها وقلة تجربتها بالحياة لكن عرفت ماذا تريد، رجلا أدخل حياتها ومشاعرها وكيانها، ومنحها حبا متدفقا.
كانت تمتلك قوة عجيبة كصخور الجبال الباسقة ومنها تستمد العزم في حياتها اليومية، قامت بالإجهاض مرتين وسط ظروف قاسية جدا، بينها وبين الموت شعرة ضعيفة.
بعد عدة أيام من التحاقهم واستقرارهم في فصيل المكتب السياسي للحزب، التقت أبو تانيا (عدنان عباس) عضو اللجنة المركزية ومسؤول الفرات الأوسط وقتها، اخبرته بأنها حامل، فعرض عليها الاحتفاظ بالجنين وبعثها بزمالة دراسة إلى الاتحاد السوفيتي او بلد اشتراكي اخر، لكنها رفضت مفضلة البقاء والنضال من أجل تحقيق حلمها بالعدالة والمدينة الفاضلة، لقساوة الحياة والظروف الأمنية من قصف مدفعي يومي وانعدام ابسط مستلزمات الحياة التي يحتاجها الأطفال، ناهدة وزوجها سلام قررا التخلص من الجنين، فأخبرت أبو تانيا بقرارهما، ثم أخبرت أم هندرين طبيبة الموقع بالقرار، هيأت ام هندرين العيادة المتواضعة جدا، ذهبت معها هدى (هناء ياسين) أخت الشهيدة عايدة ياسين، بدأت العملية بأدوات بدائية وبمشرط واحد وبدون تخدير، كانت تمسك بيد هدى في محاولة من تخفيف الآلام ، يا لها من قوة حديدية، تكللت العملية بنجاح كانا توأم (ولدان) ، بذلك سجلت الإجهاض الثاني، اما الأول فكان في بغداد عندما كانت تدعي بأن زوجها كان مفقودا في جهات القتال، بسبب قسوة النظام وبطش الأجهزة الأمنية، فقررت اجراء عملية اجهاض.
ناهدة أصبح اسمها ( بهار) فيما بعد كاسم حركي، بهار نشطة ومليئة بالأفكار، هذه المرة هو إنشاء ورشة للخياطة مما استدعى مقر الفصيل المستقل بمفاتحة مقر القاطع لغرض اللقاء مع مسؤول القاطع ( توما توماس) ، حيث عرضت عليه فكرة المشروع وجدواه الاقتصادية ، لكي لا يضطر الرفاق لقطع مسافات طويلة وعبور شوارع ومخاطر الكمائن وتعرضهم للاستشهاد ، كما طلبت بهار اشراك ابنة الأب الروحي توما توماس ( كما يطلق عليه هذه التسمية ) بهذا المشروع، وقد استجاب لها باعتبار أن هذا المشروع مهم لفائدة الرفاق، بالتعاون ومساعدة الجميع أنشئت غرفة للورشة، وأحضر الرفيق أبو خالد من قاطع أربيل لتدريبهن على الفصال، وخلال أسبوع وصلت ماكنتان للخياطة وتم نصبتا في غرفة الخياطة، مما دفع بهار لإنجاز البدلات بوقت قياسي وتصليح الحقائب القماشية وتصليح ملابس الرفاق، ومن خلال هذا المشروع تعرفت على رفاق ومقاتلين من السرايا الجوالة ومن شتى بقاع العراق ومن قوميات وأديان وطوائف مختلفة جمعتهم فكرة العدالة والمساواة، جعلتها تعمل بغبطة دائمة وللجميع .
يوم الحشر والانسحاب إلى المجهول، في 5حزيران 1987 وعند حلول المساء، كان القصف كثيفا والسماء الساكنة تحولت إلى جهنم وكتل من الكرات السوداء، إنها الضربات بالكيماوي، وأصوات الطائرات تحط على الرؤوس من شدة قربها وضجيج يخترق الأجساد ويهزها، كانت بهار تفتش عن زوجها الذي كان يستحم في الحمام ولم تجده، وصار الغروب المخادع بهدوئه أشبه بيوم الحشر وحافة جهنم، وبعد عناء التفتيش عن أبو الطيب بين الغرف، سمعت صوتا، بهار أنا بخير، حضنت أبو الطيب وتحسست أصابعه إنه بخير، أبو فؤاد كان أول شهداء القصف الكيماوي، رجعت بهار إلى الطبابة لتساعد أم هندرين وكانياو وهي من رفاق حزب تودة الذين لجأوا مع الأنصار الشيوعيين العراقيين في الجبل، جاء قرار بحمل المصابين ونقلهم إلى مكان غير ملوث وخصص لهم ثلاثة بغال لنقل أبو الطيب وأبو ماهر وأبو رزكار صاحبتهم بهار ورفيقان، وأثناء السير في الطريق، شعرت بهار بفقدان البصر وانتشرت الآلام بكل جسدها، مما استدعى الرفاق بغطس رأسها بمجرى الماء، حتى استفاقت من ضربتها التي ألمت بها وهي ما بين إصابتها وإصابة زوجها ابو الطيب، وبعد مرور سبعة أيام استشهد أبو رزكار متأثرا بالضربة الكيمياوية، يوم 8/ 8/ 1988 سمعنا من المذياع بأن الحرب العراقية توقفت، وفي صباح اليوم التالي كانت رحلة العودة إلى القاعدة القديمة المتروكة، يراودهم القلق مما تضمره الأيام القادمة، كانت تضمم هذه المجموعة الصغيرة ضمنها موقع فصيل الاسناد، والمكونة من أبو سعد و أبو جواد وأبو الوسن وسلام مروكي ومنذر وعمودي وأبو نادية الفوج الثالث وبهار وزوجها سلام، ستواجه هذه المجموعة نصيبا تراجيديا وتتوزع بين شاهد وشهيد، إلى أن جاءهم التبليغ في 20/ 8/ 1988 من قبل المسؤول العسكري التالي ( العوائل تغادر الموقع الآن )، أخذت بهار تودع الموقع والثلاث سنوات التي عاشتها تعادل حياة كاملة، نزلوا مسرعين على مسلك ضيق يؤدي إلى النهر، بهار كانت تمشي وتودع شجرة الجوز والمشمش والتين المنتشرة على السفوح والمرتفعات المنبسطة المطلة على المجرى كادت تخنقها العبرات، حتى وصلوا ضفة النهر، عبروا النهر من خلال الترافيك، كان القلق والتوجس والاضطراب واضحا عند الجميع، كانت ليلة عصيبة بعد القصف الكيماوي المدفعي والطيران السمتي وراجمة الصواريخ، الرفيقان أبو نادية وسلام مروكي كانا منهارين يتنفسان بصعوبة ويعتقد بإصابتهم بغاز الاعصاب، اصبحا بحالة هستيرية، أرادا الانتحار، هنا شعرت بهار بجبروت الطبيعة وقوتها وضآلة الانسان اتجاهها، وسط مخاوف البحث عن بقية الرفاق من قبل مجموعة تطوعت لهذا الأمر، فكان الأمر صادما أبو الوسن وأبو جواد وأبو سعد استشهدوا، شعور بهار بالحزن اكثر بعد ما شاهدت النيران تتصاعد من القاعة الكبيرة ، وقد ضاعت أحلام بهار بتحقيق حلم الناس بوطن حر وشعب سعيد، بعد هذا الموقف الصعب عرضت نفسها (بهار) على الدكتور الإيراني بعد أن أخذ وزنها ينقص وتردي حالتها الصحية، فكانت نتيجة الفحص بانها مصابة بعصيات كوخ (السل) ، جاءت إلى زوجها سلام، لإخباره نتيجة الفحص، قالت له بأن لا يقترب منها لكونها مصابة بالسل ، فأخذها سلام وضمها إلى صدره ، قال لها نحيا او نموت معا.