اخر الاخبار

كما معروف، في تشرين الثاني 1953 صدر العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) يتصدرها شعارها التنويري العتيد: فكر علمي... ثقافة تقدمية!  وفي هذا العام، 2023، وحيث تحل الذكرى السنوية لعيد الصحافة الشيوعية، ذكرى صدور أول عدد من جريدة “كفاح الشعب” في نهاية تموز 1935، تحل أيضا الذكرى السبعون لتأسيس المجلة مؤكدة أنها نحتت خلال العقود السبعة موقعها كمنبر متميز بين منابر التنوير والثقافة الوطنية والديمقراطية في بلادنا.

لم تكن (الثقافة الجديدة) مجرد حلم راود مجموعة من المثقفين الرواد الذين بادروا إلى تأسيسها، بل كانت تتويجا لجهود حثيثة ومثابِرة حوّلت الأمر من مجرد حلم إلى فعل ثقافي – فكري - سياسي نشيط. وبفضل جدّية المعنيين بصدورها آنذاك ومسعاهم الثابت إلى أن تتحول المجلة إلى مطبوع جديد يقدم بحق فكرا علميا وثقافة تقدمية، سعت (الثقافة الجديدة) إلى تجسيد الفكرة والحلم عبر ممارسة الصراع الفكري والثقافي من خلال نقد الواقع السائد، وتفكيك خطابات القوى المسيطرة، ونشر الثقافة الوطنية والديمقراطية مستقطبة قطاعات واسعة من النُخب الثقافية والباحثين الجادين. وقد ارتبط ظهورها أيضا بالأجواء السائدة حينذاك في بلادنا وفي المنطقة والعالم بعد النتائج التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية والنهوض العاصف لقوى الديمقراطية والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والسلام والاشتراكية. وقد ساهم ذلك كله في بلورة فكرة هذا المنبر الجديد، وتحولها إلى واقع ملموس لتكون (الثقافة الجديدة) ليس رقما عاديا من أرقام الإعلام والصحافة بل مطبوعا يبشر بجديد نوعي في الفكر والثقافة ويؤسس لنقد الواقع بمختلف بُناه، ويساعد في اعادة بناء الوعي الاجتماعي.

لم يكن الطريق سهلا قطعا.. بل كان صعبا ومحفوفا بمخاطر وتحديات شتى.. وهذا هو طريق الجديد الناهض المتحدي والمتوثب لتكسير أصنام الوثوقية والمسلمات الجاهزة والأجوبة المعلبة “الصالحة” لكل زمان ومكان. وكان المؤسسون الاوائل للمجلة على وعي تام بصعوبة ومشقة المهمة التي اتجهت (الثقافة الجديدة) نحوها في خمسينيات القرن العشرين العاصفة وبحاجتها إلى المثابرة والنفس الطويل. وعلى هذا الطريق رأت المجلة، منذ عددها الأول، أنه لن يكون هناك أي مبرر لوجودها إلا في انخراطها النشيط في بلورة مشروع ثقافي- سياسي نوعي يختلف عن السائد، واستشراف المستقبل عبر الرهان والترويج لبديل وطني ديمقراطي وبناء دولة عصرية، وتحفيز النخب الثقافية وقطاعات المجتمع المتنورة للمساهمة في تحقيق هذا المشروع والدفاع عنه، والمساهمة النشيطة في تأسيس خطاب ثقافي –اقتصادي - سياسي تنويري ديمقراطي عقلاني، وإعادة صياغة المفاهيم والكشف عن الظواهر والعمليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. الخ وما يرافقها من تناقضات وما يترتب عليها من استقطاب وتهميش وتركز للثروة والسلطة والنفوذ.  

 خلال أعوامها السبعين أرادت مجلة (الثقافة الجديدة)، باعتبارها ترجمة جادة لإرادة جماعية، أن تكون منبرا يرفض أية حواجز على الفكر وتنميط الواقع بمقاسات مصممة على وفق ما يريده الحكام والقوى المسيطرة. ولذا فقد اختارت طريق الكتابة والبحث العميق والمتنوع في قضايا الفكر والواقع العراقي وبناه الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية وتراكيبه الطبقية وإشكالياته الثقافية ودور نخبه الثقافية في التغيير المطلوب. وفي معالجاتها لهذه القضايا خاضت (الثقافة الجديدة) معارك فكرية متعددة الصُعد وسعت إلى وضع قضية التغيير والديمقراطية والتنوير والحداثة في صلب الهمّ الثقافي جاعلة منها مفاهيم جاذبة وليس اساطير عصية على الفهم.

  ويحق لـ (الثقافة الجديدة) ان تفتخر بان صفحاتها وخلال أعدادها المختلفة، طيلة سنواتها السبعين، احتضنت أكبر الأسماء العراقية (مع حفظ الألقاب) في مختلف الاجناس الابداعية الفنية والسياسية والاقتصادية: صفاء الحافظ ، صلاح خالص، ابراهيم كبة، محمد سلمان حسن، فيصل السامر، محمود صبري، عبد الملك نوري، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، عامر عبد الله، كاظم السماوي، كوران، ديلان، شاكر خصباك، عبد الملك نوري، غائب طعمة فرمان، نهاد التكرلي، الشيخ محمد رضا الشبيبي، عطا صبري، يوسف العاني، نوري الراوي، وليد صفوت واسماعيل الشيخلي، وصالح جواد الطعمة، وعبد الله البستاني، و خالد الشواف، و نزيهة الدليمي، وذنون أيوب، وسعاد محمد خضر، وفائق بيكه س، ومحمد كريم فتح الله، وصاحب حداد، وعبد الرزاق الصافي، صباح الدرة، وكاظم حبيب، ونمير العاني، وشمران الياسري (ابو كاطع)، والفريد سمعان، وكريم كاصد، وزهير الجزائري وفالح عبد الجبار وعصام الخفاجي، هذا إلى جانب عدد كبير من الأدباء والشعراء وكتاب القصية والروائيين والفنانين التشكيلين والمسرحيين والسينمائيين، إضافة إلى الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع وعشرات بل مئات غيرهم من المبدعين. كما ونجد أسماء: اندريه موروا، وأراغون، وأنطون تشيخوف، وأميل زولا، وبيرل باك، البير كامو، هنري ماتيس، فيكتور هيغو، هربرت سبينسر... الخ.

وبهذا الإطار اصبحت (الثقافة الجديدة) بتفاني روادها الأوائل وكتابها ومحرريها وجمهورها رافدا فكريا تقدميا فاعلا في تطوير الثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية وذلك من خلال احتضانها ورعايتها ونشرها للإنتاج الفكري والإبداعي في بلادنا، وواصلت ذلك النهج طيلة اعوامها السبعين رغم ما تعرضت له من ضغوط ومنع وعراقيل جمة، من بينها اضطرارها إلى أن تصدر خارج الوطن لما يقارب العقدين والنصف، بسبب ما تعرضت له القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي العراقي من إرهاب وقمع في حقبة النظام الدكتاتوري المقبور.

وبفضل جهود الرواد الاوائل (والمبادرة لإصدارها كانت لفقيدي الثقافة الوطنية الديمقراطية: الدكتورصلاح خالص والشهيد الدكتور صفاء الحافظ، اللذين كانا قد عادا إلى الوطن بعد اكمال دراستهما الاكاديمية في فرنسا)، ممن حملوا الفكرة وحولوها إلى واقع، وهيئات التحرير التي واصلت العمل خلال الفترة الماضية وبدعم قطاعات واسعة من المجتمع ونخبه الثقافية تحول اسم المجلة إلى واقع مؤسس لا يسعى إلى تمجيد الفكرة والحلم بقدر ما كان يعمل على بلورة أسس التغيير المطلوب ممثلا في شكل حركة فكرية تلتف حول المجلة، تعتمد التحليل والنقد وتجاوز الواقع وتطوير الخطاب بمراجعة مفاهيمه وتصوراته وآلياته. ومن المؤكد أن مجلة (الثقافة الجديدة)، كانت على الدوام وما تزال، وستبقى أيضا، لا ترى مبررا لوجودها إلا في انخراطها النشيط في مشروع الكشف عن الواقع وتناقضاته الفعلية وطرح البديل لتجاوز هذا الواقع واستشراف المستقبل ولا ترى أي تعارض بينهما.

إنها مهمة تنويرية ولا شك. ومهمة من هذا الحجم تستدعي مواكبة نقدية لكل القنوات المختلفة التي تصب في اتجاه تواصلها. فما نشرته المجلة وتنشره من كتابات وحوارات ومحاور وملفات تشكل جزءا مكونا لشخصيتها باعتبارها تسعى إلى ان تكون صعيدا مشتركا للحوار والنقاش المفتوح، ومنبرا لمقاربات ثرية وحية، لتكون بحق وفية لشعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية. ولكي تواصل المجلة هذا الطريق كان عليها ان تسلك سبيل التقييم النقدي الذي لا يهادن الاجترار وإعادة انتاج “المسلمات” في الخطاب التقليدي، مصرة على ان تكون اداة فكرية فاعلة في معارك التنوير والحداثة والديمقراطية. وكان لها ذلك رغم كل الصعاب.

إن ما يميز مجلة (الثقافة الجديدة)، هو مواصلتها الصدور عبر سبعين عاما من عمرها المديد، متحدية الصعوبات والعراقيل الكثيرة. صحيح انه حصل انقطاع عندما عطلت السلطة الملكية الرجعية (الثقافة الجديدة) بعد صدور عددها الرابع وظل حبيساً من عام 1954 إلى أن تم الافراج عنه – أســـوة بسجناء الرأي – بعد انبثاق ثورة 14 تموز الوطنية 1958. وتكرر الأمر بعد انقلاب شباط الاسود في 1963، ولاحقا القمع والملاحقة التي تعرضت لها القوى الديمقراطية في اواخر السبعينيات من القرن العشرين. ولكن المجلة واصلت التحدي وهذا بفضل تضحيات وإصرار ومثابرة العاملين فيها على تأمين صدورها وتطويرها محتوى وإخراجاً، اضافة إلى الدعم المتواصل من قرائها ومن طيف واسع من السياسيين، والأكاديميين ومنتجي الثقافة ونخبها عموما، من الذين الذين واصلوا دون كلل مد المجلة بأبحاثهم ودراساتهم وملاحظاتهم بهدف المساهمة في ارساء الأسس الثقافية والفكرية التنويرية في المجتمع العراقي.

واضافة لذلك نود الاشارة هنا إلى أننا واحتفاء بهذه المناسبة العزيزة، نجد من الضروري التعبير عن اعتزازنا بما أنجز خلال سبعين عاما، وننتهز الفرصة هنا للإشادة بدور هيئات التحرير المتعاقبة ورؤساء تحرير المجلة وكوادرها، من الراحلين والاحياء، الذين واصلوا المسيرة وعملوا بكل جد وإصرار على أن تبقى راية المجلة مشرعة. وبهذه المناسبة الجليلة، نستذكر ايضا اولئك المؤسسين الاوائل ممن وضعوا اللبنات الاولى والاسمنت المسلح لهذا الصرح الكبير وإلى اولئك الذين واصلوا هذه المسيرة بعد الرواد الاوئل ونقول لهؤلاء جميعا: بوركت جهودكم.. انها كانت ولا تزال وستبقى المعين الذي لا ينضب الذي يمنحنا الطاقة على مواصلة ما بذله الجميع من عطاء كبير طيلة سبعة عقود لتبقى (الثقافة الجديدة) منبرا عاليا للفكر العلمي وللثقافة التقدمية.

تحية للذكرى السنوية الثامنة والثمانين لتأسيس الصحافة الشيوعية العراقية وهي تواصل جهودها، رغم كل الصعاب، ودون كلل، من أجل المساهمة في بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية على قاعدة العدالة الاجتماعية!

    والتحية موصولة لكل من واصل ويواصل الدرب من الشغيلة العاملين على هذه الجبهة الساخنة متحدين المخاطر، غير هيابين، مواصلين الملحمة الكبرى التي ابتدأها الرعيل الاول من الرواد. إن الدماء التي أرخصوها هي خلاصة المحبة، والوعي، والإرادة الصادقة، والشجاعة وروح الاقتحام.

تحية للذكرى السبعين لصدور العدد الاول من مجلة (الثقافة الجديدة) في تشرين الثاني 1953! وتحية لمؤسسيها الاوائل ولهيئات تحريرها المتعاقبة ورؤسائها وكتابها ومحرريها وقرائها ممن كان لجهودهم وتضحياتهم الكبيرة وشجاعتهم الدور الاكبر في ان يتواصل صدورها طيلة سبعة عقود رغم كل المصاعب والمخاطر والحصارات، وأن تبقى معبرة بحق عن شعارها العتيد: فكر علمي.. ثقافة تقدمية!

عرض مقالات: