اخر الاخبار

تواجه القوى السياسية في المجتمعات التي يجري تصنيفها في اطار الرأسماليات التابعة أو حسب ما يسمى بمصطلح دول الجنوب الفقير، المصطلح الذي استخدمه المفكر سمير أمين الذي كتب قبل ثلاثة عقود عن الجانب الاقتصادي في التجربة الصينية، تحديات كبيرة ناتجة عن الواقع السياسي و الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعات لم تشهد مفاهيم وقيم الحداثة والتنوير والعقلانية. تتجلى تلك التحديات في ديمومة التبعية وضعف وتائر النمو، واستمرار الازمات في مجالات البطالة وتوريث الفقر، وفشل برامج التنمية والوقوع في فخ الديون الخارجية، في معادلة مبنية على تراكم الثروات لدى الأقلية، وفقدان ما يسمى بالطبقة الوسطى، وتوسيع دائرة الشغيلة الباحثة عن فرص العمل بما يؤمن الحد الادنى من الحاجات الاساسية، أو ما يسمى بعيش الكفاف في ظل اتساع ظاهرة البريكاريا أي المهمشين المصطلح الذي استخدمه غاي استاندك الاستاذ في مدرسة لندن للاقتصاد.

تتطلب التحديات المشارة لها، توجهاً حقيقياً مبنياً على تجاوز ما يمكن تسميته بفقاعة التنمية، أي مشاريع التنمية الشكلية المبنية على استنساخ التجارب، أو فرض البدائل وتمريرها عبر الحديث عن تحديث مبني على إنجازات موهومة وطفرات لا تمت إلى الواقع بصلة، وتبقي تلك الدول والمجتمعات في فلك التبعية السياسية والاقتصادية.

إن هذا الواقع يتطلب التوجه نحو مشاريع تنمية حقيقية تتجاوز الأطر التقليدية السابقة التي فرضتها سياسات النهب الاستعماري السابق، والتعكز على النموذج النيوليبرالي المبني على مفهوم نهاية التاريخ، لنفكر في البديل ونجد الأواصر الحقيقية بين مفهومي التنمية و التحديث، عبر معادلة جديدة تتجاوز العلاقة الميكانيكية بين المفهومين، و تكشف العلاقة الديالكتيكية بينهما، وهذا ما يتطلب وجود مشروع للتحديث تكون التنمية في صلبه، ويكون هذا المشروع مؤسساً على الوعي الاجتماعي العام بضرورة التحديث وفق خصوصيات الواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي.

إننا نرى ان وجهتي التحديث والتنمية تتلازمان مع وجهة التجديد في الماركسية بشكل عام. واذا كانت وجهة التحديث الصيني، وما اسميه بوجهة التحديث الاشتراكي المبني على التلازم و التوازن بين صيننة الماركسية وعالميتها، جلياً في أسسه العامة الواردة في التقرير السياسي للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والتأكيد على ماهية التحديث الهادف الى وضع الشعب في المقام الأول والاستجابة لرفاهيته، وتحقيق العيش اللائق له، واعتبار الشعب صانع التاريخ، مما يحتم تحقيق التنمية الحرة والشاملة للإنسان على أساس النزاهة السياسة والوئام الاجتماعي وتوفير البيئة الجميلة له، وتحقيق آماله وطموحاته في ضمان تطوير الحضارة والتقدم الاجتماعي، وضمان البيئة الملائمة، بما يضمن آفاقاً واعدة في مجال التنمية والمحافظة على حقوق و مصالح الأجيال القادمة، فان هذه الوجهة العامة تشكل المبادئ الاساسية للتحديث الذي بمكن انجازه في مجتمعات عديدة بالاستفادة من التجارب الناجحة ومنها تجربة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، بعيدا عن استنساخ التجارب ونقله بشكل حرفي الى مجتمعات أخرى وهذا ما يرفضه التجربة في الصين وأفكار الرفيق شي جينبينغ الذي يؤكد على صيننة الماركسية والخصائص الصينية في بناء الاشتراكية التي تعني فيما تعنيه التنمية و التحديث و تحقيق العيش الرغيد.

أرى ان التحديث بهذا المعنى في بلداننا في غرب آسيا و شمال افريقيا يجب ان يتم بارادات مستقلة مبنية على التشارك المجتمعي في تحويل خطاب الحديث عن  التحديث الى مشروع للتحديث، يتم العمل على وضع اليات انجازه من خلال الحامل الاجتماعي لمشروع التحديث، ويكمن الحامل الاجتماعي في تلك المجتمعات و الدول التي اشرنا اليها في الطبقات و الفئات الكادحة و المهمشين الذين يجب ان يكون لديهم دورا في صياغة مشاريع التنمية والتحديث، بعيدا عن فرض نماذج تقليدية تعمل الدول الامبريالية على فرضها ضمن عقلية المركزانية الأوروبية وشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويتطلب الأمر التوجه نحو الحوكمة الشاملة وتعزيز الديمقراطية وتأمين الحريات العامة والتأكيد على قيم العدالة الاجتماعية، وهذا ما نؤكد عليه في النضال لتوجيه التطورات في كردستان العراق ضمن هذه الوجهة التي تتفق مع جوهر وقيم الحضارة الكردستانية.

توفر تجربة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد خطوطا اساسية عامة في مجال المبادئ العامة للتحديث. فالخطوات الاساسية العامة تبدأ بوجهة الاصلاح والانفتاح. وتعني الاصلاح فيما تعنيه المراجعة النقدية المتعلقة بالجدوى الاقتصادية للمشاريع، وانعكاسها الايجابي على حياة الأنسان اليومية. وتتمثل الجانب الآخر في مواجهة الفساد والاثراء غير المشروع والتطلع دوما الى تنمية عالية الجدوى، وصولا الى تحقيق العيش الرغيد ضمن المفاهيم المتنوعة والمتعلقة بهذا المفهوم ضمن الحضارات المختلفة والثقافات المتنوعة للشعوب.

ولا بدّ أن يكون واضحا بأن تحقيق وتائر عالية في عمليات التحديث، ومنها مجالات مكافحة الفقر والتي حققت تجربة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد نجاحا باهرا على الصعيد الأممي، فان ذلك النجاح، كما تؤكد تلك التجربة عليه، لا يعني تحقيق العيش الرغيد، ولذا فان امام الحزب و الدولة أولا مهمة الحفاظ على ما تحقق في هذا المجال، وثانيا وضع خطة واضحة للمناطق الفقيرة او التي كانت تعاني من التهميش باي سبب كان، للمضي في تحقيق خطوات ملموسة في مجال التنمية وعكسها على حياة المواطن من الناحية الاقتصادية و السياسية.

وهذا يعني التحول من الحماية والقضاء على الفقر الى ديمومة الرعاية للحيلولة دون التردي والتراجع، وهذا يعني ايضاً إيجاد الآليات الملموسة لديمومة الرعاية التي تتحقق من خلال منع إعادة إنتاج ثقافة الفقر، والمضي بخطوات واقعية في مجال التنمية، ومعالجة حالات التفاوت الكبير في الدخول والناجمة عن اقتصاد السوق الاشتراكي، عبر مراجعة سياسات الحماية الاجتماعية و الضمان الصحي، وخاصة للفئات التي تجاوزت خط الفقر، وكذلك ما يتعلق بتطوير سياسات التربية والتعليم والتاهيل، وإيجاد اليات مناسبة تكون فيها اليات اقتصاد السوق تضمن اشراك القوى البشرية العاملة في مجالات الإنتاج والخدمات والتجارة وغيرها، مع التركيز على قضية الإنتاج، اي ان تكون اقتصاد السوق في خدمة القوى والطاقات البشرية لا ان تكون القوى البشرية العاملة في خدمة اقتصاد السوق.

ان هذا التوجه يتطلب مراجعة وتقييم السياسات في مجال الملكية الزراعية وملكية الأرض، وتشجيع المشاريع الصغيرة ودعم الشباب وخاصة النساء، لتأسيس مشاريع صغيرة وحثهم على التعاون مع البعض لتأسيس مشاريع مشتركة ضمن التوجيه لمشاركة الدولة معهم كملكية تعاونية.

إن الارادة المستقلة التي نستلهمها في تجربة بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية والتحديث الصيني النمط، تكمن في ضرورة التركيز على نقاط اساسية ضمن سياسة “تكبير الكعكة وتوزيعها بشكل عادل”، لأن الاقتصاد العالمي يشهد حالات فائقة الشدة والتخوف في مجال التفاوت بين الدخول، والذي أصبح ظاهرة عالمية، حيث تزداد ثروة الأغنياء بأرقام فلكية، وتتدهور وضع الفقراء بأرقام فلكية أيضا، ولا تزال أقلية صغيرة تتحكم في الثروة على النطاق العالمي.

ان مسؤولية أحزابنا التي تؤمن بالتقدم والتغيير هي كسر القيود والتخلص من الجمود العقائدي، والمضي الى صياغة مفهوم الحداثة الاشتراكية كعملية ذات طابع صيروري مكمل للحداثة الرأسمالية وبديل عنها، بعيداً عن مفاهيم ما بعد الحداثة، وكما قال هبرماس فان الحداثة مشروع غير مكتمل.

شكرا لإصغائكم.

ـــــــــــــــــ

  • مداخلة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني التي جرى تقديمها في مؤتمر الحوار بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب السياسية في بلدان غرب اسيا و شمال افريقيا في مدينة نينتيشوان في مقاطعة نينغيشيا ذات الحكم الذاتي لقومية هوي بتاريخ 13 تموز2023.
عرض مقالات: