اخر الاخبار

في أيام 12 – 23 حزيران 1923 عقد في موسكو الاجتماع الكامل الموسع الثالث للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية (الكومنترن) وتركزت مداولات 50 ممثلاً عن 26 حزبًا شيوعيًا من جميع أنحاء العالم على الوضع في ألمانيا، حيث ساء وضع البلاد السياسي والاقتصادي، في أعقاب احتلال منطقة الرور، بشكل كبير (احتلت فرنسا وبلجيكا منطقة الرور، ردا على عدم دفع المانيا تعويضات الحرب العالمية الأولى – المترجم).

في 20 حزيران 1923، القت كلارا زيتكين. خطابها الأول امام هذه الهيئة. وكان الخطاب أبرز حدث في المؤتمر، حتى لو لم يفهم، من قبل العديد من المشاركين، على هذا النحو. حاولت كلارا زيتكين أن تقدم لأول مرة تحليلا ماركسيا شاملا   للفاشية الناشئة، وفق تجربتها في السلطة، منذ 1921 في إيطاليا، ووفق تشكلها الخطير في المانيا. لقد أدركت كلارا زيتكين خطورة التهديد الفاشي في وقت مبكر أكثر من العديد من معاصريها.

حذرت كلارا زيتكين بشكل قاطع من الاستخفاف بالفاشية، التي لم يُنظر إليها في أجزاء كبيرة من الحركة الشيوعية على أنها إرهاب برجوازي مكثف أو “ثأر البرجوازية” بعد محاولات الانقلابات الثورية: “الفاشية ليست بأي حال ثأرا برجوازيا لنهوض البروليتاريا النضالي. اذا نظرنا اليها تاريخيا وبموضوعية، فإن الفاشية تأتي كعقاب، لأن البروليتاريا لم تستمر، ولم تدفع بالثورة التي بدأت في روسيا. وحملة الفاشية ليسوا طبقة صغيرة، بل هم طبقات اجتماعية واسعة، جماهيرها كبيرة تصل حتى إلى البروليتاريا. يجب أن نكون واضحين بشأن هذه الاختلافات الأساسية، إذا أردنا التخلص من الفاشية”.

كلارا زيتكين، إحدى الشخصيات الأكثر إثارة للإعجاب في الحركة العمالية في القرن العشرين، توفيت قبل تسعين عامًا، في 20 حزيران 1933، في موسكو، حيث عاشت منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين. كانت أيقونة حقيقية للحركة الشيوعية العالمية في ألمانيا وخارجها، ومع ذلك كانت، في تلك المرحلة، معزولة إلى حد كبير في الحركة الشيوعية على الصعيد المحلي، وكانت تشعر بقلق متزايد بشأن التطورات في الاتحاد السوفيتي، وبصفتها عضوًا في اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، كانت منزعجة بشكل خاص من نظرية ستالين عن “الفاشية الاجتماعية”، والتي بموجبها، يصبح الديمقراطيون الاجتماعيون الخصم الرئيسي للحركة الشيوعية، وليس اليمين المتطرف. جاء في رسالة كتبها ابنها الأصغر قسطنطين من باريس عام 1939 إلى صديقة العائلة طبيبة الأعصاب إليزابيث ماير والمقيمة حينها الولايات المتحدة الأمريكية:

“على الرغم من إن الوالدة، كما تعلمين، تقف بالأساس على أرضية ألأممية الشيوعية، ولكنها تحيد في بعض المسائل التكتيكية الهامة عن سياسة الكومنترن. ويعود ذلك لمعرفتها العميقة بتاريخ، ألمانيا، فرنسا، انكلترا، وايطاليا، ولغة هذه البلدان، وللممارسة والجهد النظري لسنوات طويلة، وارتباطها الطويل بالبروليتاريا الألمانية ومنظماتها السياسية والنقابية. ومع انحسار المد الثوري في بداية العشرينات في وسط وغرب أوربا، اتضح بشكل أكثر حدة، إن النضج الأيديولوجي، باستثناء البروليتاريا الروسية، لم يكن بمستوى التطور الموضوعي للتناقضات الطبقية، كانت الوالدة تعي ما يترتب على هذا الوضع بالنسبة لتكتيكات الكومنترن والعلاقة بينها وبين ألأممية الثانية والنقابات. إذ لم يكن بمقدور المرء لوقت طويل أن يتنبأ، إن بإمكان المرء أن يفترض في عام 1919، إن الأممية الثالثة ستجر جموع الجماهير الكبيرة معها عبر شعارات ونشاطات ثورية. وقد تطابق تصورها مع ما أطلق عليه لاحقا تسمية الجبهة الموحدة، ولكن بدون الديماغوجية والحيل التي شوهته لاحقا. وبالمناسبة لقد شاركها لينين معظم آرائها واستنتاجاتها. وللأسف انتزع منه المرض مقود القيادة، عندما كان على وشك أن يضع مساراً جديداً لسياسة الكومنترن. ولم تستطع الوالدة التوصل للأخذ بوجهات نظرها المختلفة، وكذلك كانت مترددة في الوقوف ضد النقل الميكانيكي للوسائل والأشكال السياسية التي تطورت، في ظل ظروف معينة، في روسيا، إلى بلدان أوربية أخرى. لقد استقرأت تفتت الكوادر السياسة نتيجة لتكتيك الانقلاب، وشل وشق صفوف الطبقة العاملة عبر الشعارات الديماغوجية التي اعتمدها الحزب مثلا في الاستفتاء الأحمر في جبهة واحدة مع النازيين ضد الاشتراكيين الديمقراطيين. لقد عاشت ما يكفي لترى تحقق مخاوفها. وبنفس القدر الكبير الذي ألقت فيه اللوم على الاشتراكيين الديمقراطيين لانتصار النازية، لكنها لم تغفل ولو قليلا سياسة الكومنترن الخاطئة التي ساهمت في صعود هتلر.

ان المواقف المعارضة للوالدة، في بعض المسائل التكتيكية، خلقت لها الكثير من المصاعب، ورغم ذلك كانوا يحترمون شخصيتها الأممية. وقد حملوني وحملوا مساعديها أعباء “انحرافاتها”. ورغم أنى أشارك الوالدة رؤيتها و”هرطقتها”، ولكني لم أجرأ، ولم أر ان هناك ضرورة، ارتباطا بخبرتها الغنية في الحركة العمالية، لتحريضها. وعلى العكس من ذلك حاولت إيقافها أحيانا وحملتها على التراجع عن موقفها، عندما تمر بواحدة من نوبات غضيها على واحدة من دسائس مساعداتها ومساعديها”.

على الرغم من أن كلارا زيتكين اشتهرت بدورها البارز في الحركة النسوية الاشتراكية العالمية، إلا أنها كانت أيضًا واحدة من أوائل الماركسيين في ألمانيا الذين أدركوا الخطر القاتل الذي تمثله الفاشية، ليس فقط على الحركة العمالية التي وعدت الفاشية بتدميرها، ولكن على عموم المجتمع. قبل وفاتها بعقد من الزمان، في 20 يونيو 1923، ألقت خطابها التاريخي الذي تمت الإشارة اليه، والذي أدرج في محاضر جلسات الاجتماع تحت عنوان “الكفاح ضد الفاشية”.

تنمو جاذبية الفاشية مع أزمة الرأسمالية، ومن أجل هزيمتها، يجب أن يكون اليسار مستعدًا لمواصلة الهجوم السياسي والفكري، لكسب الفئات المنجذبة لوعود الفاشية الكاذبة لصالح البديل اليساري، وكذلك لاستخدام القوة للدفاع عن النفس. كانت نقطة البداية لهذه الاعتبارات هي صعود حزب بينيتو موسوليني الفاشي في إيطاليا في عام 1922. لقد خاضت الطبقة العاملة الإيطالية صراعات طبقية شرسة، واحتلت المصانع وأثارت انتفاضة في مناطق بأكملها في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، لكنها فشلت في الإطاحة بالحكومة الرأسمالية وبدء الانتقال إلى الاشتراكية. جادلت زيتكين أنه نتيجة لهذا الفشل، تمكن موسوليني وأعوانه من ملء الفراغ وكسب قطاعات كبيرة من الطبقات الوسطى والفلاحين الفقراء، إلى جانب قسم من الطبقة العاملة المحبطة، الذين سعوا إلى مخرج آخر للازمة. ووفقًا لزيتكين، إذا لم تغير الحركة الشيوعية استراتيجيتها، فقد يحدث الشيء نفسه قريبًا في بلدان أخرى.

كان تحذير زيتكين واضحًا. في ألمانيا، استمر النازيون، الذين كانوا في عام 1923 قوة ضئيلة نسبيًا، في النمو بسرعة حتى استولوا، في نهاية المطاف على السلطة، مثلما توقعت زيتكين، وعانت الحركة العمالية في وأوروبا والعالم من عواقب وخيمة.

إن الوضع العالم اليوم، يختلف اختلافًا جوهريًا عن وضعه في عام 1923، على الرغم من بعض أوجه الشبه: ليس هناك حرب عالمية ولا ثورة، لكن اليسار شهد عودة متواضعة في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 وعاد شبح الاشتراكية إلى الظهور في السياسة كبديل للنظام الليبرالية الجديدة، ولكن في الآونة الأخيرة، نشهد تراجع قوى اليسار في اوربا بشكل خاص. وفي الوقت نفسه تستمر الحرب في أوكرانيا ويرتفع التضخم المرتبط بها. وتتدهور الحالة المعيشية لأوساط هشة واسعة، وتعمل قوى اليمين على استغلال هذا الواقع لخدمة أهدافها الشريرة.

تحليل خاطئ ومراوحة

ومع ذلك، لم تنجح الأممية الشيوعية وأحزابها الأعضاء لاحقًا في تبني الأفكار التي صاغتها كلارا زيتكين حول الفاشية، وتطوير سياسة معاصرة وواقعية على أساسها. والأسوأ، بعد أشهر قليلة فقط من خطاب كلارا زيتكين، صاغ غريغوري زينوفييف، زعيم الأممية الشيوعية، مصطلح “الفاشية الاجتماعية” ، كتوصيف لجوهر طبيعة وسياسة الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وفق ما اعتقد .

تبنى ستالين هذ المصطلح على الفور. واكد في مقالة لمجلة “البلاشفة” في أيلول 1924، وبمنطق مشكوك فيه:” ان الفاشية هي منظمة نضال البرجوازية، التي تستند على الدعم الفعال للديمقراطية الاجتماعية. والديمقراطية الاجتماعية تمثل موضوعيا الجناح المعتدل للفاشية. هذه المنظمات ليست متعارضة، لكنها تكمل بعضها البعض. وهؤلاء ليسوا نقائض، بل توائم”.

لم يكن ممكنا على أساس هذه الرؤية النظرية، وضع أفكار واقعية بشأن طبيعة الفاشية وسياستها، وقبل كل شي رؤية للنضال ضدها. صحيح أن مصطلح “الفاشية الاجتماعية “ قد اختفى من الاستخدام النشط في قاموس الأممية الشيوعية لبضع سنوات لأسباب نفعية، لقد كانت هناك بعض المحاولات الخجولة للتعاون مع ا الديموقراطية الاجتماعية في إطار “ تكتيك الجبهة الموحدة „، جرى التركيز على ابرازه. ولكن مع انعقاد المؤتمر العالمي السادس للأممية الشيوعية في موسكو في صيف عام 1928، أصبحت معادلة “الفاشية القومية” و “الفاشية الاجتماعية” الأساس الرسمي للسياسة الشيوعية في جميع أنحاء العالم.

اكد نيكولاي بوخارين ، الذي  اصبح، في هذه الأثناء، رئيسا للأممية الشيوعية ، في خطابه الافتتاحي: إن مسألة العلاقة مع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية هي القضية السياسية الرئيسية. وان تكثيف النضال ضد الديموقراطية الاجتماعية هو التوجه السياسي للأممية الشيوعية.

في خطابه، الذي لاقى ترحيباً حماسياً من قبل الغالبية العظمى من المندوبين في موسكو، في 26 تموز 1928، لخص إرنست تيلمان، الذي ترأس وفد الحزب الشيوعي في المانيا، القضية، بشكل يضرب به المثل. لقد زعم أن الديمقراطية الاجتماعية الألمانية تطورت “من الإصلاحية إلى الفاشية الاجتماعية”. وأضاف: “إن تطور الإصلاحية إلى فاشية اجتماعية ظاهرة يمكن توضيحها في دول مختلفة وبأمثلة مختلفة”.

وبالتالي، فشلت جميع الجهود التي بذلها الحزب الشيوعي افي المانيا لإنشاء جبهة واسعة مناهضة للفاشية في السنوات التي سبقت عام 1933، ويرجع ذلك أساسًا إلى عدم الرغبة في الاعتراف بالديمقراطية الاجتماعية كشريك محتمل. وبدلاً من ذلك كان يُنظر لها، حتى الأيام الأخيرة من جمهورية فايمار وما بعدها، وتم التعامل معها على أنها عدو “ فاشي اجتماعي”. في شباط 1932، ادعى تيلمان أن الحزب الشيوعي في المانيا “لن يخلق، من خلال إطلاق الاتجاه الرئيسي ضد الديموقراطية الاجتماعية، سوى المتطلبات الأساسية لمحاربة فعالة ضد فاشية هتلر”.

حتى بعد استلام هتلر للسلطة في 30 كانون الثاني 1933، كانت قيادة الحزب الشيوعي في المانيا لا تزال تطالب “بتعزيز النضال ضد الديموقراطية الاجتماعية “. وفي خطاب زيغنهالزر في 7 شباط 1933، انتقد تيلمان حقيقة عدم نجاح الحزب الشيوعي في المانيا في “القضاء على تأثير الحزب الديمقراطي الاجتماعي على الجماهير العريضة من العمال، إلى الحد المطلوب”. وفي الوقت نفسه حذر من “المبالغة في تقييم” حكومة هتلر “بثباتها ومقاومتها للبروليتاريا”.

وعلى الرغم من الهزيمة التاريخية العالمية عام 1933، ووصول فاشية هتلر إلى السلطة وتحطيم الحركة العمالية الألمانية، فقد استغرق الأمر من الأممية الشيوعية أكثر من عامين لتطوير تعريف جديد لمصطلح “الفاشية” في الفترة التي سبقت انعقاد مؤتمرها العالمي السابع في صيف عام 1935: “الفاشية في السلطة هي ديكتاتورية إرهابية مفتوحة لأكثر عناصر رأس المال المالي رجعية وشوفينية وإمبريالية”.

عرض مقالات: