اخر الاخبار

أثبتت المعركة التي دارت على أرض مخيم جنين بين المقاومين الفلسطينيين وجنود الاحتلال، يومي الاثنين والثلاثاء في الثالث والرابع من شهر تموز/يوليو الجاري، أن هذا المخيم، الذي يُعتبر من أفقر المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وأعلاها في معدلات البطالة وأكثرها كثافة سكانية، إذ يقطنه نحو 18000 فلسطيني وفلسطينية يعودون بأصولهم إلى لاجئي 1948، كان وسيبقى من أهم رموز المقاومة الفلسطينية للاحتلال.

 ماذا كانت أهداف هذا العدوان الجديد على المخيم؟

أصبح مخيم جنين رمزاً للمقاومة الفلسطينية بعد قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي بهجوم واسع عليه في التاسع من نيسان/أبريل 2002، بعد حصار شديد له دام نحو شهر كامل، وذلك خلال اجتياحها مدن الضفة الغربية في ربيع ذلك العام. وخلال ذلك الهجوم، الذي تصدى له ببطولة شبة أسطورية المقاومون الفلسطينيون، سقط 52 شهيداً فلسطينياً أكثر من نصفهم من المدنيين ومئات الجرحى، وتمّ تدمير 400 منزل، بحيث بات ربع سكان المخيم من دون مأوى، بينما قتل 23 جندياً إسرائيلياً. ومنذ سنتين تقريباً، صار هذا المخيم يشهد توغلات دورية لقوات الاحتلال أسفرت عن سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، إذ استشهدت في 11 أيار/مايو 2022 الصحافية الفلسطينية المعروفة شيرين أبو عاقلة خلال تغطيتها معارك دارت في المخيم، وسقط سبعة شهداء من المقاتلين الفلسطينيين ومدنيان اثنان في 26 كانون الثاني/يناير 2023 في توغل جديد لقوات الاحتلال، كما سقط سبعة شهداء خلال توغل آخر لهذه القوات في 19 حزيران/يونيو 2023.

وبغية تبرير هذه التوغلات الدموية، كانت سلطات الاحتلال تتذرع بأن مخيم جنين بات موقعاً لـ “إرهابيين” من حركتَي “حماس” والجهاد الإسلامي بصورة خاصة، وأن عليها “أن تقضي عليهم قبل قيامهم بعمليات تستهدف الإسرائيليين”. أما تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، التي صدرت بشأن العدوان الجديد على مخيم جنين، فقد كان أبرزها التصريحات التي صدرت عن رئيس الوزراء الإسرائيلي وعن مستشاره لـ “شؤون الأمن القومي” وعن ناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، إذ أعلن بنيامين نتنياهو، صبيحة يوم الاثنين في الثالث من الشهر الجاري، أن قواته “دخلت إلى عش الإرهابيين في جنين، وهي تدمر مراكز القيادة وتستولي على كميات كبيرة من الأسلحة”، وصرّح، لدى زيارته قاعدة عسكرية في ضواحي جنين صباح اليوم التالي، أن إسرائيل “لن تسمح بأن تتحوّل جنين إلى ملاذ للإرهاب”، مضيفاً أن الجيش يستهدف “بنية تحتية إرهابية” و “مركز عمليات” تابعين لـ “كتيبة جنين”، ثم توقع في تصريح آخر على أعتاب بدء انسحاب قواته من المخيم مساء يوم الثلاثاء أن العملية الجارية “لن تكون الأخيرة، وإنما ستكون بداية توغلات منتظمة وسيطرة مستمرة على أرض المخيم”. أما مستشاره تساحي هنغبي، فقد أعلن أن العملية “هدفت إلى منع مجموعات مسلحة مدعومة من إيران من أن تستخدم مخيم جنين موقعاً لتحضير هجمات وصنع صواريخ، وأن العملية ستحقق قريباً أهدافها”. بينما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، العميد دانيال هاغاري، صباح الاثنين: “عدنا هذا المساء للقيام بعملية في منطقة مدينة جنين”، هدفها “إفشال البنية التحتية الإرهابية في مخيم جنين للاجئين، وتعطيل أنشطة الإرهابيين، واعتقال المطلوبين، وتحييد المقرات والقواعد العسكرية، وكذلك مختبرات الأسلحة والذخيرة”[1].

العدوان يخفق في تحقيق أهدافه

أسفرت المعركة الجديدة التي دارت في مخيم جنين بين المقاومين الفلسطينيين وجنود الاحتلال عن سقوط 12 شهيداً فلسطينياً ونحو 100 جريح، من بينهم 20 في حالة خطرة، وعن اعتقال العشرات من الشبان الفلسطينيين، بينما أدت إلى مقتل جندي إسرائيلي واحد وفقاً لبيان رسمي إسرائيلي. وعن حصيلة تلك المعركة، اكتفى ناطق باسم الجيش الإسرائيلي بالتصريح بأن جيشه دمّر “مركزاً للعمليات المشتركة” لـ “كتيبة جنين”، و”مخزناً للأسلحة”، و”موقعاً للمراقبة”، وأنه اعتقل عدداً كبيراً من” المشبوهين”، بينما “ما زال يوجد في جنين نحو 300 مقاتل اختبأ معظمهم”.

والواقع، أن معظم المحللين يجمع على أن قوات الاحتلال التي دخلت المخيم وضمت نحو ألف جندي وعشرات المدرعات وناقلات الجند والجرافات والطائرات المسيّرة، أخفقت هذه المرة أيضاً في تحقيق أهدافها، وهذا ما أكده المحللون الإسرائيليون أنفسهم. فقد اعتبر المحلل السياسي آفي يسخروف، يوم الثلاثاء في الخامس من الشهر الجاري، في مقال نشره في صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن العملية في جنين هي بمثابة “إعطاء مريض ميؤوس من شفائه حبة أسبيرين”، مقدّراً أن ما حققته هذه العملية هو “تقليص كميات السلاح الموجود في حوزة المسلحين الفلسطينيين في جنين”، ولعلها أفادت أيضاً بنيامين نتنياهو على الصعيد الداخلي، بحيث أصبح “في إمكان مؤيديه النجاح في جعل الناس ينسون حقيقة أنه منذ ولاية حكومة اليمين بالكامل، نشهد تصاعداً دراماتيكياً في الهجمات، وهجوم يوم الثلاثاء في تل أبيب [عملية الدهس والطعن التي نفذها فلسطيني وأسفرت عن سقوط سبعة جرحى] هو نموذج آخر من ذلك”، ومتوقعاً أن هذه العملية “لن تخفض عدد الهجمات [الفلسطينية]” بكل تأكيد[2]. أما المحلل السياسي الآخر، تسفي برئيل، فقد نشر في اليوم نفسه في صحيفة “هآرتس” مقالاً حمل عنواناً شبيهاً وهو “هل ستُنهي العملية “الإرهاب”؟ هي ليست أكثر من حبة مهدئ للمستوطنين”، رأى فيه أن “فقدان بنيامين نتنياهو السيطرة السياسية أثمر عملية استعراضية”، ذلك إن “ما من إنسان عاقل في الجيش، وفي الشاباك، وحتى في دوائر اليمين، يصدق أن هذه العملية قضت على “الإرهاب” في مخيم اللاجئين في جنين، ناهيك بمدينة جنين ونابلس والقدس، وكل الأراضي المحتلة”، مقدّراً “أن يكون نتنياهو نفسه لا يصدق الكلام الذي خرج من فمه عندما قال “نسعى لتغيير المعادلة في مواجهة ‘الإرهاب” “[3].

وقد أقرّ الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، في السادس من الشهر الجاري، أي بعد انسحاب الجنود الإسرائيليين من المخيم، بهذه الحقيقة، عندما قال “إن العملية العسكرية في مدينة جنين ومخيمها لن تكون الأخيرة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في جنين، ويمكن أن يضطر إلى العودة سريعاً إلى هناك إذا استدعت الضرورة ذلك”، محملاً مسؤولية العجز عن إنجاز أهداف هذه العملية إلى “أن المعلومات الاستخبارية لم تكن كافية للوصول إلى جميع الأهداف في مخيم جنين، وإلى أن كثيراً من الخلايا المسلحة انسحبت خارج المخيم”[4].

ردة فعل الفلسطينيين: سنقاوم ولن ننتقل من هنا

كشف أحد المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، وهو المقدم ريتشارد هشت المسؤول عن العلاقات مع الصحافيين الأجانب، الهدف الحقيقي للعدوان الأخير على مخيم جنين، عندما قال: “إن العملية الجارية تهدف إلى وضع حد لذهنية الملاذ الآمن في مخيم اللاجئين، وإرسال رسالة إلى الناس الذين يؤون مقاتلي الكتيبة، والذين يتعاطفون معهم، تظهر لهم أن هذا التدمير هو نتيجة دعمهم المقاومة”.

فماذا كانت ردة سكان المخيم؟

طبعاً لا يمكن الاستهانة بسقوط 12 شهيداً ونحو 100 جريح بين صفوف هؤلاء السكان، ولا باضطرار نحو 3000 منهم إلى ترك منازلهم بصورة مؤقتة، بعد انقطاع الماء والكهرباء فيها وخشية الوقوع ضحايا العدوان. لكن على الرغم من هذه المعاناة، فإن سكان هذا المخيم عبّروا من جديد عن التفافهم حول المقاومين، وعن عزمهم على الصمود داخل مخيمهم، حتى إن القسم الأكبر من الذين نزحوا عن المخيم ما لبثوا أن عادوا إليه، ما إن توقفت المعارك، وانضموا إلى عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين شاركوا في تشييع جثامين الشهداء.

كانت المعارك دائرة في المخيم عندما أصدرت “كتيبة جنين” بياناً أكدت فيه “أن مقاتليها سيقاتلون قوات الاحتلال حتى الرمق الأخير، وأن جميع الفصائل موحدة وتعمل بصورة مشتركة”. وصرّح أحد مناضلي حركة “فتح” في المخيم بأن العدوان “لن ينجح في تحييد هذه المدينة ومخيمها؛ فهذا وهم”، مقدّراً أن ما يمكن أن يحدث في المستقبل هو أن تتعزز المقاومة للاحتلال، بحيث “تحذو مدن أخرى، مثل قلقيلية وطولكرم ونابلس ورام الله والخليل وبيت لحم، حذو جنين”. أما محمود منصور، وهو من سكان المخيم، فقد قال: “لقد بقينا في بيتنا، لكنهم قطعوا الكهرباء ثم الماء عنا، إذ قامت جرافات بجرف بعض الأزقة، وقطعت أسلاك الكهرباء ومجاري المياه، بذريعة تفجير ألغام زرعت على أطراف هذه الأزقة”، وأضاف “لقد افتقدنا الخبز، وتعرضنا للجوع، ولم نعش في الماضي أياماً كهذه”. وقال مواطن آخر من سكان المخيم، يدعى معتصم، وهو أب لستة أطفال، لمراسل وكالة رويتر “لم يفلحوا، والحمد لله، في تحقيق أهدافهم؛ إن الشباب في حالة جيدة، والأهالي والمخيم كذلك”، وأضاف: “لقد سقط 12 شهيداً ونحن نفتخر بهم، ولكننا نتوقع أضراراً أكبر نظراً لعظم الهجوم”. بينما قال أيمن، الذي يبلغ من العمر 18 عاماً، إنه يدافع عن مدينته بالحجارة، مضيفاً: “نحن هنا في وطننا، في جنين، لن نتحرك من هنا، هذه المدينة فلسطينية، وستبقى كذلك؛ لن يكونوا قادرين على كسر عزيمتنا، يمكنهم نشر دباباتهم، ونشر كل ما لديهم من ترسانتهم العسكرية وإطلاق الصواريخ، لكن كل هذا لن يغيّر شيئاً، فنحن لن نترك هذه الأرض التي هي لنا”. أما نجاة التي تشتت عائلتها، فقالت: لقد أمهلوا جميع السكان ساعتين لإخلاء المخيم، مدّعين أن مخيم جنين منطقة إرهابية؛ لكننا نحن الضحايا، في الواقع، وهم الذين يأتون لمهاجمة أطفالنا وقتل شباننا البالغين 16 و 17 عاماً من العمر”[5].

وهكذا، يبدو أن مخيم جنين سيبقى شوكة في حلق المحتلين الإسرائيليين، مهما استعملوا من وسائل وحشية للقضاء على مقاومته.

[1]https://www.lemonde.fr/international/article/2023/07/04/a-tel-aviv-7-blesses-dans-un-attentat-tandis-que-se-poursuit-l-operation-israelienne-en-cisjordanie_6180481_3210.html;          

https://www.francetvinfo.fr/monde/proche-orient/israel-palestine/a-jenine-l-operation-de-l-armee-israelienne-est-officiellement-terminee-les-soldats-se-retirent_5931554.html;

https://www.arabnews.fr/node/399116/monde-arabe

[2] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/5-7-2023.pdf

[3] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/5-7-2023.pdf

[4] https://digitalprojects.palestine-studies.org/sites/default/files/6-7-2023.pdf

[5]https://www.middleeasteye.net/fr/decryptages/occupation-palestine-jenine-offensive-israel-brigades-resistance;

https://fr.investing.com/news/world-news/la-colere-gronde-en-cisjordanie-apres-le-raid-disrael-sur-jenine-2189100;

https://www.lemonde.fr/international/article/2023/01/27/a-jenine-recit-d-un-assaut-israelien-meurtrier_6159551_3210.html;

https://www.francetvinfo.fr/monde/proche-orient/israel-palestine/reportage-tout-le-monde-est-une-cible-potentielle-la-population-de-jenine-sous-le-choc-apres-l-operation-speciale-de-l-armee-israelienne_5931704.html

عرض مقالات: