اخر الاخبار

الفرضية الأساسية لكتاب “المنظور العالمي” للماركسي الدنماركي كورتل لاوسن تتلخص بعدم إمكانية فصل الإمبريالية عن الرأسمالية.

يركز المؤلف على الإمكانيات العملية، بشأن الرؤى والاستراتيجيات للمقاومة المناهضة للإمبريالية في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي الجديد المعولم. 

لا تكاد مفردة يتم استخدامها حاليًا ليس بمعناها، مثل “الإمبريالية”. لقد أعلن المستشار الألماني شولتس في مقال له في جريدة “فرانكفوتر الغماينة تسايتنغ” المحافظة في 17 تموز 2022 بعنوان “الإمبريالية عادت إلى أوروبا” أنه بالغزو الروسي لأوكرانيا، عادت “الإمبريالية” إلى الساحة السياسية العالمية. وإن الاتحاد الأوروبي هو “نقيض الإمبريالية والاستبداد”، أي ان المستشار الألماني يرى في روسيا وحدها دولة امبريالية.

 وعلى هذا الأساس تتصرف الصين وروسيا بطريقة “إمبريالية”، بينما “تدافع” الولايات المتحدة وشركاؤها المؤيدون دائما عن أنفسهم، حتى لو كانت المواقع تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، كما هو الحال في افغانستان. أو يقدمون “المساعدة”، كما في اليمن أو في مالي أو ليبيا. لا يهم إذا كانت هذه “المساعدة” تتسبب وتسبب مقتل الملايين وتترك الدول التي استفادت منها “دولًا فاشلة”. الإمبرياليون هم دائمًا الآخرون “، يكتب محررو (مجلة الطبقة الدنيا) في مقدمتهم لكتاب توركيل لاوسن، “المنظور العالمي. الامبريالية والمقاومة”.

ما هي الامبريالية؟

في كتابه يستند لاوسن على مفهوم لينين للإمبريالية، الذي صاغه في دراساته عن التغيرات الاقتصادية الأساسية في بداية القرن العشرين “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” في العنوان الذي وضعه لينين [أحدث مراحل الرأسمالية” 1917]. ووفقًا لهذه الدراسة، فإن “الإمبريالية” هي الرأسمالية في مرحلتها “الاحتكارية”. يشرح لينين الدور المتغير للبنوك (دمج رأس المال الصناعي والمصرفي في رأس المال المالي) ودور تصدير رأس المال في تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ.

بالنسبة للواسين، فإن دراسة لينين في “تطفل” الأمم الإمبريالية لها أهمية خاصة. بعبارة أخرى، إن الشركات الاحتكارية الموجودة في المراكز الإمبريالية تستحوذ على فائض القيمة من جميع أنحاء العالم، وبالتالي فهي قادرة على تمرير جزء صغير من الغنيمة إلى فئات الطبقة العاملة الأكثر امتيازًا في بلدها لشراء السلام الاجتماعي .

في صياغته لمفهوم الامبريالية يوسع لاوسن المفهوم، بالنسبة له، فإن نمط الإنتاج الرأسمالي في “شمال العالم” هو “إمبريالي” منذ البداية، لان استمراريته ممكنة فقط، بواسطة غزو ونهب واستغلال واستعمار “جنوب العالم”.

يعرض الكاتب ذلك في القسم الأول من كتابه الموسوم “تاريخ الامبريالية”. يشمل الكتاب ثلاثة اقسام. يكتب المؤلف:

“بين القرن العاشر والقرن الخامس عشر، كان العالم مقسمًا إلى ثلاث كتل: الصين والهند كانتا الأكثر تقدمًا اقتصاديًا وسياسيًا، وكان الشرق الأوسط سرة التجارة العالمية، وكانت أوروبا جزءًا من الأطراف.” تغير هذا في القرن الخامس عشر بغزو ما يسمى بالعالم الجديد واستغلال الدول الأوروبية لثرواته؛ تبعه استعمار أجزاء كبيرة من آسيا وأفريقيا. “بالنسبة للعالم غير الأوروبي، كان الاستعمار كارثة. انخفضت نسبة غير الأوروبيين من سكان العالم من 83 إلى 62 في المائة بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر “.

الحركة العمالية في شمال العالم والاستعمار / الاستعمار الجديد

يبين لاوسن كيف أن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الجماهيرية في الأممية الثانية، سعت جاهدة للتوفيق بين مصالح الطبقة العاملة ومصالح الدولة البرجوازية، لقد وجهت انتقادات قليلة للسياسات الاستعمارية السائدة. عندما كانت موضوعة الاستعمار على جدول أعمال مؤتمر الأممية في شتوتغارت عام 1907، أعلن إدوارد برنشتاين باسم الديمقراطية الاجتماعية الألمانية: “إن وصاية معينة للشعوب المتحضرة على الشعوب المتخلفة ضرورة يجب على الاشتراكيين الاعتراف بها أيضًا. تعتمد رفاهية اقتصادنا على منتجات من المستعمرات التي لا يعرف سكانها الأصليون التعامل معها”.

بالضد من ذلك، أعطى لينين والأحزاب الشيوعية في الأممية الثالثة (الكومنترن) دورا حاسما لمحتوى الأممية. جاء في قرار في المؤتمر التأسيسي للكومنترن في موسكو عام 1919: “على حساب الشعوب المستعمرة المسروقة، أفسد رأس المال عبيده المأجورين، وخلق مجتمع المصالح بين المستغَلين والمستغلين في مواجهة شعوب المستعمرات المضطهدة، الصفراء، السوداء والحمراء، وقيد العمال الأوروبيين والأمريكيين بالأصفاد الإمبريالية”.

يصف لاوسن بالتفصيل كيف بُذلت جهود في المؤتمرات اللاحقة للكومنترن وفي “رابطة مناهضة الإمبريالية” التي أسستها الاممية، لتوحيد نضال الحركة العمالية في المركز الرأسمالي مع نضال المستعمرات وحركة مناهضة الاستعمار، والتي حققت نجاحات متفاوتة: بينما كانت هذه الجهود ناجحة للغاية في الجنوب العالمي (على سبيل المثال في الصين والهند الصينية تأسيس أحزاب شيوعية مؤثرة وتعزيز ة حركات التحرير المناهضة للاستعمار)، وظلت الرؤى والاستنتاجات العملية في المراكز الإمبريالية محدودة نوعا ما.

أدى ظهور المعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية كقوة موازنة للقوى الاستعمارية الإمبريالية القديمة إلى خلق مجال جديد للحركات المناهضة للاستعمار. حصلت الهند / باكستان على استقلالها (1947) والصين (1949) والعديد من الدول الآسيوية والأفريقية الأخرى في الستينيات. لكن لم يتغير شيء جوهريًا في طابع الإمبريالية، فقد حاولت إبقاء المستعمرات السابقة تحت سلطتها الاقتصادية من خلال “استعمارها الجديد”. يؤكد لاوسن، أنه حتى إبان “الحرب الباردة” وبعد ذلك أثناء “الليبرالية الجديدة”، ظل عدم الاهتمام الواسع من جانب العمال الأوروبيين ومنظماتهم بمصير المستغلين في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ثابتًا سياسيًا.

“الدولة الطفيلية” والأرستقراطية العمالية / نظرية التبعية

تكمن أسباب فقدان الأممية البروليتارية في بلدان شمال العالم في العلاقة بين “الدولة الطفيلية” و “الأرستقراطية العمالية”. وفي هذا يستند لاوسن إلى المنظر الماركسي الدنماركي غوتفريد أبيل (1924 -1992). طور أبيل ما يسمى بـ “نظرية الدولة الطفيلية”، والتي تقول إن الطبقة العاملة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، “شمال العالم”، تعيش حالة من الازدواجية: يتم استغلالها في عمليات الإنتاج وتنتج فائض القيمة، وفي نفس الوقت يتم رشوتها، لأن مستوى معيشتها، وبالتالي احتياجاتها الاقتصادية والثقافية تقوم طيلة عقود على المشاركة في الاستغلال الذي يمارسه الاستعمار والاستعمار الجديد. إن عامل الرشوة و “الأرستقراطية العمالية” المتنامية باستمرار هما السبب في بقاء الحركة الثورية في أوروبا الغربية محدودة التأثير. عندما يحرر “جنوب العالم” نفسه من الإمبريالية وبالتالي يزيل أساس أرباح الدول الغنية الهائلة، ستكون هناك أرض خصبة للتغييرات الاجتماعية الثورية في أوروبا الغربية.

في القسم الثاني من كتابه، يتناول لاوسن بشكل مكثف نظريات الإمبريالية المعدلة في الستينات. يمكن وصف الاقتصاديين الأمريكيين بول سويزي، وهاري ماجدوف، وإيمانويل والرشتاين، واليوناني أرغيري إيمانويل، والمصري سمير أمين، بشكل عام “بمنظري التبعية”، الذين (مع كل الاختلافات) ينطلقون من النموذج الأساسي التالي: الإمبريالية هي نظام “المراكز” (المتربول)، الذي يضم أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان (“الثالوث”) و “الأطراف “ في بلدان جنوب العالم. تزود بلدان الأطراف المراكز بالمواد الخام والبضائع التي تنتجها العمالة الرخيصة. ونظرًا لأن المراكز تمتلك السلطة السياسية والاقتصادية، فليس لها مصلحة في حدوث تنمية اقتصادية ديناميكية في البلدان المستغلة، والتي يمكن أن تصبح منافسة لها في السوق العالمية. في القسم الثاني من الكتاب والموسوم (“الرأسمالية العالمية”)، يقدم المؤلف العديد من الأمثلة على كيفية عمل علاقات التبعية في رأسمالية الليبرالية الجديدة وما يعنيه ذلك لسكان بلدان جنوب العالم.

ما هو الدور الذي تلعبه الصين؟

بعد ان ينهي القارئ ثلثي الكتاب يتولد لديه انطباع بأن لاوسن، وعلى غرار سمير أمين، يخلص إلى أن: الاستقلال السياسي والاقتصادي الحقيقي لبلدان جنوب العالم يتحقق، عندما تفصل هذ البلدان نفسها بشكل حاسم عن السوق الرأسمالية العالمية.” التبادل غير المتكافئ لا يمكن أن ينتهي إلا عندما تتوقف دول الأطراف عن تلبية احتياجات بلدان المركز. وهذا يؤدي إلى أزمة في المركز، من شأنها أن تحل التسوية التاريخية بين رأس المال والعمل. ولكن بعد ذلك يأتي دور الصين ويلاحظ القارئ كيف يبدأ لاوسن التفكير. الصين، القوة المهيمنة اقتصاديًا وسياسيًا في جنوب العالم، التي فعلت، منذ السبعينات العكس تمامًا، فبدلاً من فصل نفسها عن الاقتصاد الإمبريالي العالمي، ربطت الصين نفسها بخيوط لا حصر لها بالسوق العالمية وأصبحت، على أبعد تقدير، منذ الأزمة المالية لعام 2007، عامل استقرار حاسم للاقتصاد العالمي. في فصل “الاشتراكية، على الطريقة الصينية”، يلخص لاوسن تاريخ الحزب الشيوعي الصيني وجمهورية الصين الشعبية من عام 1921 حتى الوقت الحاضر.  ويطرح استنتاجا غامضا للغاية.

ومن وجهة نظره، أدت افكار دنغ شياو بينغ (1904 – 1997)، التي اعتمدت في الصين، إلى “ (تطور رأسمالي) للدولة” حول الصين من واحدة من أقل دول في عدم المساواة في الدخل إلى واحدة من أعلى البلدان تباينا في الدخل. “سيبين المستقبل ما إذا كان الاقتصاد الصيني المخطط سينجو من دمج البلاد بالرأسمالية العالمية، أو أن الصين ستصبح دولة ليبرالية جديدة مثل أي دولة أخرى”.

من ناحية أخرى، يشير إلى ما هو إيجابي: الصين “تتحدى القاعدة العالمية لسلطة الثالوث وتهدف إلى توزيع متعدد المراكز للسلطة. وفي المناقشات الدولية، تمثل الحكومة الصينية مصالح بلدان الجنوب. وينمو تأثيرها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتستثمر في مشاريع البنى التحتية، وتؤسس بنوك التنمية وتحاول إحياء روح باندونغ “ (مجموعة دول عدم الانحياز – المترجم). والمثال هو: السنغال، على سبيل المثال، تقوم بتوسيع العلاقات مع دول مجموعة بريكس ممثلة لبلدان غرب إفريقيا، حيث تم افتتاح ممثلية لدول المجموعة في تشرين الأول 2022 هناك.

“معارضة الحرب دائمًا جزء من معاداة الإمبريالية”

في نهاية المطاف، يدور كتاب لاوسن حول استكشاف الاحتمالات والاستراتيجيات العملية للمقاومة المناهضة للإمبريالية في النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي الجديد المعولم. “المخاطر كبيرة. هل سيدمر النظام نفسه في كارثة بيئية أو نووية تأخذ العالم كله معها؟”

استنتاجات المؤلف

“سوف يشارك الناتو في العديد من الصراعات في المستقبل القريب. فالحرب والإمبريالية يسيران جنبًا إلى جنب. لذلك كانت معارضة الحرب دائمًا جزءًا من مناهضة الإمبريالية. وهذا ينطبق على المواجهات بين الدول الإمبريالية وكذلك على العدوان على بلدان جنوب العالم”.

“الاقتصاد المجرد” أصبح سلاحًا بشكل متزايد أيضًا، في شكل عقوبات وحصار اقتصادي وحروب تجارية واقتصادية. ولمواجهة هذا الواقع، هناك حاجة إلى نضالات مشتركة للطبقة العاملة في شمال الكرة الأرضية وجنوبها.

لقد أثبتت القومية دائمًا أنها عقبة رئيسية أمام التطورات التقدمية. مثال: لم تجلب حركات التحرر الوطني في القرن العشرين لا الاشتراكية ولا اختراقات دائمة لهياكل الاستعمار الجديدة إلى بلدان الجنوب.

“الحد الأدنى الذي نحتاجه هو نوع من” قارب نجاة اشتراكية “، حيث يحل التوزيع العادل والاستخدام المستدام للموارد محل الاستهلاك الفردي كمحرك للاقتصاد. واقل من ذلك لا يكفي لاستمرار الحياة، وحتى هذا يتطلب نظامًا عالميًا جديدًا”.

خلاصة

يقول النص التعريفي في غلاف الكتاب، أن هذا الكتاب هو كتاب تمهيدي ومناقشة. يمكن التأكيد على ذلك بلا تحفظ. يقدم الكتاب نظرة عامة غنية بالمعلومات عن تاريخ الرأسمالية / الإمبريالية من القرن الخامس عشر حتى الوقت الحاضر، وفق رؤية جنوب العالم المستغل. ويتضمن الكتاب اقتباسات من قادة ومنظرين معادين للإمبريالية: ماو، هوشي منه، تشي جيفارا، كوامي نكروما (غانا)، أميلكار كابرال (غينيا بيساو)، جوليوس نيريري (تنزانيا). ويقدم المؤلف نظرة ثاقبة في فهم النظرية والممارسة لحركة زاباتيستا (حركة سياسية مسلحة في الولاية الواقعة اقصى جنوب المكسيك – المترجم) ويلقي ايضا نظرة على حركة المنتديات الاجتماعية.

إن الأسئلة حول دور ومستقبل الحركة العمالية في شمال الكرة الأرضية (النقابات والأحزاب)، والتي يفترضها لاوسن بشكل مفرط، وبالتالي “ لبس ديالكتيكي” في رأيي، ستحفز النقاش. ويمكن لليسار أن يجادل بشكل ممتاز وبتقاطع حول الصين.

المؤلف في سطور

توركيل لاوسن مواليد الدنمارك عام 1952. كان عضوًا في منظمة يسارية مسلحة سرية نفذت عمليات سطو على البنوك لدوافع سياسية في سنوات 1972 - 1989 ودعمت حركات التحرير بالأموال المسروقة (على سبيل المثال، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). كان لاوسن من بين الأعضاء الذين حُكم عليهم بالسجن لمدة 10 سنوات وأُطلق سراحهم أواخر عام 1995 بشروط. اليوم، لاوسن باحث مستقل في مجال الاقتصاد الماركسي ونظرية التبعية. في عام 2017، نشر كتابه “المنظور العالمي” باللغة الدنماركية، وفي عام 2018 باللغة الإنجليزية، وعام 2022 باللغة الألمانية.

عرض مقالات: