في فيلمه «كارل ماركس الشاب»، يعرض المخرج راؤول بيك مشهدا يقوم فيه فرنسي مجهول، من أصل أفريقي، باعتراض بيير جوزيف برودون خلال أحد خطاباته في الهواء الطلق في باريس. فعلى النقيض من حشد العمال الذين تجمعوا حوله، قاطع الرجل الأسود، الذي يرتدي ملابس أنيقة وقبعة عالية، الخطيب الشهير لحثه على التحدث عن الحرية، ليس فقط للحرفيين الذين تعرضت حرفهم للتهديد المتزايد من قبل الصناعة، بل أيضا عن الطبقة الدنيا من البروليتاريين – «البحارة، والميكانيكيون، وعمال المصاهر!». تنتقل الكاميرا لترينا ماركس وزوجته جيني، وكلاهما يبدو سعيدا بالملاحظات النقدية التي وجهها هذا الفرنسي/ الأفريقي للأب الروحي للفوضوية الفرنسية. لا يمكن نسيان هذا المشهد لسببين مهمين: الأول أنه يوضح لنا أن شخصا أسود – ربما كان مرتبطا بشكل مباشر أو بفعل نسبه الى الاستعمار والعبودية - هو الذي يحث برودون على تبني مفهوم للطبقة العاملة يشمل بروليتاريا المصانع وليس ماركس! والثاني إن المشهد لا يناقش، جهارا، مسألة البروليتاريين الذين يتعرضون للعنصرية والاستعباد في العالم الخاضع للاستعمار، بل يفعل ذلك ضمنيا، فمن خلال شخصيته السوداء يذكرنا المخرج بأن ماركس كان يعيش آنذاك ويفكر من قلب إمبراطورية استعمارية، تمتلك الكثير من مستعمرات ما وراء البحار لا تزال تهيمن عليها العبودية العرقية، وأن عددا كبيرا من أبناء هذه المستعمرات هم من يشكلون تركيبة الطبقة العاملة في قلب باريس. أي أن ماركس الباريسي، في الفيلم كما في التاريخ، لم يكن مشغولا، بعد، فكريا وسياسيا بالاستعمار والعبودية. والحقيقة إن موقف ماركس هذا لم يكن موقفا شخصيا، بل يشاطره فيه جميع الاشتراكيين الفرنسيين البارزين، عهدذاك، من أمثال برودون، لويس بلانك، وغيرهم. فعلى الرغم من عدم كونهم مؤيدين للعبودية بالضرورة، إلا أنهم دعموا القضية الاستعمارية، في أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر، كوسيلة لحل ما يسمى «المسألة الاجتماعية» في داخل بلدهم وتصدير الاشتراكية إلى الخارج. ولذلك فإن الدعوة إلى تحرير المضطهدين في الجزائر أو غيرها، والنضال من أجل تحريرهم لم يكن مصدر قلق ملح لسياستهم. وبالتالي، لم تصبح مصدر قلق ملح للبروليتاريا «المجردة» التي ألقى ماركس على أكتافها، في «مخطوطات باريس» ولاحقا في «البيان الشيوعي»، مهمة الإطاحة بالرأسمالية.
بيد أن الأمور بدأت بالتغير عندما انتقل ماركس إلى لندن. وكان لانغماسه في ثقافة مختلفة للطبقة العاملة، وخاصة ارتباطه الوثيق مع الشاعر الراديكالي والعمالي أرنست جونز، دورا أساسيا في توسيع نظرته وتغير موقفه.
لندن الثورية
كان غبار الثورات التي اجتاحت القارة الأوروبية في طريقه الى الاستقرار عندما حط ماركس رحاله في لندن أواخر آب 1849 بعد طرده من فرنسا من قبل النظام المحافظ الجديد. قبل ذلك بعام، حاول الجناح الثوري للشارتية – أول حركة جماهيرية في إنجلترا تقودها الطبقة العاملة – تحريك الأجواء الثورية. ففي أوائل حزيران 1848، ألقى أرنست جونز خطابا تحريضيا في شرق لندن، معلنا للحشد أن رياح الحرية يجب أن تهب أولا في أيرلندا، داعيا إلى تحريرها من نير البريطانيين. ألقي القبض عليه فورا وحكم عليه بالسجن الانفرادي لمدة عامين.
عندما داس ماركس على أرصفة نهر التايمز. كان جونز مسجونا لمدة عام تقريبا، واستقبلت أستراليا العديد من الشارتيين ذوي النزعة المتطرفة بعد فشل تمردهم والحكم عليهم من قبل المحاكم البريطانية بالنفي الى أستراليا. وكان على الجناح اليساري في الحركة الشارتية بقيادة محرر صحيفة «الجمهورية الحمراء» والبحار السابق وزعيم تيار الأخوة الديمقراطيون، جورج جوليان هارني، أن يعيد تنظيم الشارتية كحركة مستقلة للطبقة العاملة على أساس اشتراكي جديد. انجذب ماركس، الى صحيفة «الجمهورية الحمراء» وانضم إلى مجموعة هارني بحماس عام 1850. في تشرين الثاني من ذلك العام، نشرت الصحيفة أول ترجمة إنجليزية للبيان الشيوعي.
في غضون ذلك، أطلق سراح جونز من السجن واستأنف نشاطه ضمن مجموعة هارني «الحمراء» حيث تعرف على ماركس لتنشأ بينهما صداقة فكرية وروحية. فكلاهما في الثانية والثلاثين من العمر، وكلاهما كان ألمانياً بالولادة. ولد جونز في عائلة أرستقراطية بريطانية في برلين وتلقى تعليمه هناك حتى سن البلوغ، وبالتالي كان يمكنه التواصل بطلاقة باللغة الأم لماركس، ومشاركته أيضا في جزء من ثقافة مشتركة معه، مما ساعد على توطيد صداقتهما. أعجب ماركس ببراعة جونز الخطابية وبآرائه السياسية، وبدأ يحضر محاضرات جونز وخطاباته بين عامي 1850 و1851، حيث كان الأخير يقوم بجولة في إنجلترا لإعادة تعبئة قاعدة الشارتيين. كان جونز، من وجهة نظر ماركس، آنذاك «الممثل الأكثر موهبة واتساقا وحيوية للحركة الشارتية».
عندما قرر جونز إطلاق صحيفته الأسبوعية الخاصة «ملاحظات إلى الشعب» في أيار 1851، لم يتردد ماركس في تقديم نفسه كمساهم. كان ماركس، آنذاك، يكسب دخله الرئيسي ككبير المراسلين الأوروبيين لصحيفة «الديلي تريبيون» في نيويورك، لكن مساهماته الصحفية في «ملاحظات الى الشعب» الشارتية كانت وسيلة للوصول مباشرة إلى الحركة العمالية البريطانية. وقد غمرته في بيئة فكرية جديدة، حيث تعرف على الأفكار والآراء السياسية للشارتية، وبالتالي تعلم منها، بما في ذلك معاداة الاستعمار والإمبريالية.
فعلى خلاف سنواته الباريسية، ربط ماركس نفسه بحركة عمالية كان لها تاريخ طويل في مقاومة الحملات الاستعمارية، يمتد إلى القرن السابع عشر. وكان جونز بلا شك المدافع الأكثر اتساقا وحماسة عن هذا التقليد داخل الحركة الشارتية. وقد أرسلته مناهضته للاستعمار إلى السجن عام 1848. ثم تعمقت بعد خروجه. وفي لندن الثورية تعلم جونز، من التجربة النضالية أن المعركة من أجل الميثاق متشابكة مع إلغاء عقوبة الإعدام ومناهضة الاستعمار، وأن الطبقة العاملة عالمية ومتعددة الأعراق. فهل كان لذلك تأثير على إحداث تحول فكري لدى ماركس؟