اخر الاخبار

اليوم وأنا ألملم نفسي للكتابة عنك.. لم أجد ما أود قوله إلا هواجس متناثرة أثارتها هذه الصورة التي عفا عليها الزمن...

على يسار الصورة (أبو غايب) جالسا ًوسط ثلاثة رفاق.

مصائرنا لا تتشابه يا أبو غايب، اشتاق لرؤيتك أو سماع صوتك من بعيد، أتمنى أن يعود الزمن بنا لنتمشى معا ً حتى ولو كنا صامتين...

هل تسمح لي بعد كل هذا الزمن أن أحدثهم عنك، أن أبوح بسر غيابك. كنا لا نريد سماع تلك الطلقة، التي خسفت أرواحنا، وخنقت حكاياتنا. حتى الكلام أصبح دون معنى، حتى النضال صار سرابا ً. عن اي شيء تهامست الطيور لتريح روحك.

حين كنا معا، كنت تحدثني عن جمال روسيا وأرمينيا، وكنت أحدثك عن المعاناة داخل الوطن وعن حبي لشقائق النعمان، لكنك وبصوت محموم كنت تقول لي: طفلي وزوجتي ينتظران عودتي.

في اليوم الأخير لم تذرف دمعة، لكن من يدري ما كان يعصف بقلبك المأزوم من قلق.. لم يصغِ لك أحد، لم ينصحك الطبيب بتجاوز الحزن بالأمل.. هكذا وبلمح البصر اختفيت في باطن (وادي الأحصنة)، هكذا كانت رقدتك الاخيرة بين مروج وسحر جبل متين.

بعد عام كلنا هجرنا المكان مرغمين، وفي ذلك المساء الحزين ظل قبرك علامة دالة على الخسارة والوجع وكأن صوتك المبحوح صار يتبعنا: لا تتركوني وحيدا ً أيها الرفاق!!

كنا تمنينا لو بمقدورنا ان ننبش قبرك المتواضع ونحمل رفاتك، ولكن كيف لنا أن نفعل ذلك ونحن نواجه مصيرا مجهولا وانسحابا معقدا...؟ هكذا غادرنا مقر الفوج الثالث تحت شعور بالألم والحيرة، لكن ذكراك ظلت تصدح في قلوب الشرفاء الطيبين، يتذكرونك في الجبل والسهل، في اليأس والأمل، في الشتات وكلما أبكانا الحنين للوطن.

  في الجبل، الرفيق أخو الرفيق، القوي يسند الضعيف، إلا أبو غائب فقد كان مذياعه العتيق له خير أنيس وصديق، كان يحل ضيفا ً علينا، هاربا ً من مناكدات الآخرين، في كهف الدوشكة عرفته عن قرب.

 في المساءات الشتوية الطويلة وطردا ً للكآبة، كان يلاعبنا الشطرنج، ويحكي لنا عن تجاربه وأسفاره وما مر به في هذه الدنيا الحلوة، وأحيانا يتحدث عن الحرب الملعونة، وفي لحظة من لحظات صفائه النفسي.. يهمس لي: الفرج قريب، ستنتهي الحرب وسيلتقي الحبيب بالحبيب.

ويخبرني عن أجمل أيام شبابه في بغداد، وأحلى سنين عمره التي قضاها في مدن روسيا، وكيف كان هنالك يضحك من كل قلبه، ويمجد الحياة لأنها وهبته زوجة طيبة وطفلا وديعا. ومرت السنين الحلوة كما نسيم الربيع، وكانت الدنيا ملونة بالخير ومعطرة بالحب والهناء.

 وفي لحظة من الزمن تغير شيء في حياة أبو غايب، حيث لبى نداء الحزب والتحق بجبال كردستان مع رفاق آخرين، هكذا تشكلت حركة الأنصار المسلحة والتي من مهامها مقارعة نظام دكتاتوري. بعد سنوات عدة ومع كل ما حدث لم نتخيل قط أن تكون نهايته على هذا النحو الدراماتيكي، ولم يخطر بباله هو ايضا ً أن تكون له الجرأة الكافية كي يقرر لحظة موته بهذه السرعة الخاطفة والمحددة.

ولطالما حدَثني عن شغفه بلعبة الشطرنج، وكان يبتسم في سره كلما غلبني شاعرا بلذة النصر، وذات مرة كنا معا ًوسرني بشيء حيث قال: كنت طائشا، إلى أن اصطدمت بثلاث خسارات على التوالي، وبما أن روحي لا تقبل الهزيمة، أخذني الغضب وانهارت ثقتي بنفسي وكأن القدر لطمني على وجهي فاسودت الدنيا بعيني، فخرجت أبحث عن ذاتي في ليل وشتاء بغداد البارد، تسكعت في الحانات والنوادي، راجعت آمالي وذكرياتي، عرفت أن النار تحرق حشاشة قلبي وروحي ينتابها الكدر.. كان درسا ً هائلا ً في معنى الخسارة والندم.

قلت له: الحياة كلعبة الشطرنج تحتاج إلى قلب مبصر يمتلك وجهة نظر.

حدق بي ّ مطولا ً ثم ابتسم، ونفخ دخان سجارته كمن أعتاد على تجاوز المحن. فمن يعرفه جيدا ً لا يخالطه شك انه يحمل في صدره قلب طفل مشاكس، لكنه في إحدى المرات عبر عن ما يدور في نفسه من ألم، ضرب جبهته براحة يده، مطلقا ًعبارته الغامضة:

ــ يا إلهي كم نحن أغبياء حد النخاع...؟

رأيته في آخر يوم مهموما، وكأن (وادي الأحصنة) على سعته ما عاد ليتسع لوجان روحه المضطربة، أي ريح سوداء كانت تدفعه لذلك المصير...؟ هل كان مرغما على فعل ما فعل...!؟ أجل، هكذا كان صاحبي مرهف الحس، رقيق الروح، استبد به الحزن والحنين لعائلته، دون أن يجد من منقذ يتفهم معاناته أو يحس ما في داخله من ألم. وظل في أخطر لحظاته المصيرية وحيدا، متأرجحا بين الصواب والخطأ، ربما في البدء جرب التصويب على قلبه، لكنه خاف أن يخطئ الهدف.. من يدري ربما سمع شحرورا يغني لحظة دس فوهة البندقية في فمه، لكنه أغمض عينيه، فما عادت تشغله الدنيا، وقبل أن تخونه الشجاعة أو يطاله الندم، ضغط على الزناد احتجاجا ضد كل الظروف الغبية التي كانت تسد عليه سبل النجاة، لينفذ من ذلك الحصار الخانق والمؤلم الذي ما عاد يحتمل، وتناثر الدم. بعدها أظلمت الدنيا، وفاز بخلاصه المنتظر.

يا رب أيوب، أغفر لأبى غايب فعلته البريئة، كونه ما استعجل الرحيل والمغادرة إلا بسبب تلك الظروف العصيبة التي ألمت به، وأغفر لنا نزق عقولنا كوننا لم ننتبه لتبدل أحواله في تلك اللحظة المأساوية، وتهاونا بمد يد المساعدة وتركه يسافر في الوقت المناسب ويلتحق بعائلته.

يا رب المسرات، أعط ِالأرمني الجميل رقعة شطرنج أينما يكون، ليلعب ويتسلى، عله ينسى، ولكن كيف لنا أن ننسى...!؟ كان كل ما مر بنا درسا موجعا.

في نهاية المطاف، وبعد كل هذه السنين من حق أبو غائب الإدلاء بسؤال جارح: هل انتصرتم، أم ما يزال الدم العراقي ينزف بالوجع والنسيان...؟…

عرض مقالات: