اخر الاخبار

الشارع يغلي.. التظاهرات تندلع.. تمتد إلى العديد من الكليات. الحكومة تشدد في اجراءاتها القمعية.. مداهمات واعتقالات ومطاردات.

الجماهير تزداد اصراراً وعزيمة على فضح مساوئ وعيوب النظام الملكي وكشف المستور في عمليات التزوير التي شابت الانتخابات واللهاث على المناصب وتنفيذ مآرب الأجنبي والابتعاد عما يحلم به الشعب العراقي من عيش رغيد وحياة حرة كريمة. فالفقر والجوع يفتك بالكثيرين والاستبداد والظلم ينال من التقدميين والاحرار.

ينبري الحزب الشيوعي العراقي لقيادة الجماهير الشعبية والتنسيق مع القوى الوطنية التي تعارض معاهدة بورتسموث التي تم الإعلان عن بنودها من قبل وزير الخارجية فاضل الجمالي في مثل هذه الايام. تكبر دائرة الرافضين للمعاهدة، فهاهم طلبة كلية الحقوق والصيدلة والطب يعبرون عن سخطهم وغضبهم إزاء المعاهدة العسكرية، فتهاجم قوات الشرطة افواج المتظاهرين من الطلبة ويسفر الهجوم عن سقوط جرحى وضحايا.

تتدافع النساء للتضامن مع اخوانهن من المتظاهرين، فيهب طلبة المدارس الثانوية للوقوف إلى جانب طلبة الكليات ويسهمون في توسيع رقعة الاحتجاجات ومنهم الدكتورة نزيهة الدليمي إلى جانب الكثير من الشخصيات الوطنية الواعية، لتلعب دورها في تحريك وتثوير الشارع والحث على الخروج ضد ما هو معادٍ للشعب وتطلعاته المستقبلية.

الحماس الثوري هو السمة الغالبة للمشهد السياسي وكل التوقعات تشير إلى أن الانفجار قادم وآتٍ لا محالة. الصحف العراقية تساند وتدعم تلك الجموع الغفيرة من المواطنين الرافضين لمعاهدة الذل والهوان، وفي المقدمة منها جريدة “الرأي العام” للجواهري الكبير، حيث جاء في أحد أعدادها ذي الرقم (1829) الخميس 5 شباط 1948 ما يلي: “لن ينسى الشعب دم الشهداء البريء حتى يكشف التحقيق النزيه عن السفاحين وحتى ينتصف القضاء العادل من الظالمين”. كما جاء في أحد أعدادها بتاريخ 15 كانون الثاني 1948 ما يلي: “ أصبحت اليوم العاصمة على اضراب شامل لجميع الكليات والمعاهد العالية احتجاجاً على المعاهدة العراقية – البريطانية، وقد علمنا أن مطلبهم الأول هو الغاء هذه المعاهدة وتوفير الجهود في مثل هذه الظروف للدفاع عن فلسطين”. كما نشرت بيان اتحاد طلبة كلية الصيدلة والكيمياء الملكية وكلية التجارة والاقتصاد واحتجاجهم على المعاهدة.

هذه المساهمات وغيرها من الأعمدة والزوايا سلطت الضوء على تجاوزات الشرطة وخروقاتهم، مثلما حدث أثناء اقتحامهم لأروقة كلية الطب وسقوط جرحى وقتلى مما حدا بعميد كلية الطب هاشم الوتري إلى تقديم استقالته احتجاجاً على ما جرى.

في هذه الاثناء يصل عمي جعفر الجواهري قادما من دمشق جراء عطلة نصف السنة الدراسية وهو الذي كان يدرس في كلية الحقوق آنذاك، كان يلتهب حماساً وحيوية للمشاركة في أحداث الوثبة، كان حلمه أن يرى عراقنا عراقاً حراً ومستقلاً غير مرتهن لإرادة القوى الاجنبية.

وبعنفوان الشباب اخذ مكاناً في الصفوف الامامية من المتظاهرين، ولسان حاله يهتف: “تباً لمعاهدة بورتسموث.. تباً لكل معاهدة تقيّدنا بالأصفاد والقيود..”. تندفع التظاهرة لتزحف على جسر الأحرار وتتقدم صوب الكرخ، حيث المواقع الحساسة والحيوية للحكومة، لا يروق الأمر لشرطة النظام الملكي وتطلق النار على المتظاهرين، ويصاب عمي جعفر بجروح بليغة، وتسيل دماؤه على الجسر وترسم أحرفاً من نور تذكر بالنضال اليومي والمستميت من أجل الخلاص من ليل العملاء والمأجورين والانتهازيين.

ينقل إلى المستشفى، الأطباء يتأملون الجرح ويفحصونه، كانت اصابته عميقة وخطرة، يبذلون من الجهد اقصاه لإنقاذ حياته ولا سيما الطبيبين الوتري والجراح الشهير نجيب اليعقوبي، الرصاصة اخترقت صدره حتى الظهر، كانوا يخشون ان لا يبقى على قيد الحياة، وهو ما حدث بعد أيام معدودات من نقله إلى المستشفى.

قبل أن يتوقف قلبه، واثناء وجود الجواهري الكبير بقربه، يودع شقيقه الأكبر الجواهري، ويطلب منه ابياتا ثلاثة فقط في رثائه. وقبل أن ينطق بكلمة “أمي” حيث تقف على مقربة من سريره وتتأمل بألم ما أصاب فلذة كبدها من سقم وهزال. تقبّله القبلة الاخيرة ويقبلها وتبتهل إلى الباري في أن يمد بعمره، لكنه يغمض عينيه الإغماضة الاخيرة ويودعنا إلى عالم الخلود.

يتم اذاعة الخبر من إذاعة بغداد ليلاً، فتنظم الجماهير صفوفها، قادة الاحزاب في المقدمة وكذلك الشخصيات السياسية في ترتيب يبعث على الدهشة والذهول ويكشف جهدا كبيرا بذل من أجل إخراج هذه المسيرة والتشييع بهذا الشكل المنظم، الذي لم يسبق له مثيل في شارع الرشيد.

ذات ليلة ونحن على أعتاب الذكرى السنوية لاستشهاد عمي جعفر ووثبة كانون حدثتني والدتي عن تلك الايام، تقول: “فجعنا جميعا بهذا المصاب الجلل وكان وقعه قاسياً على والدته وبقيت تنادي باسمه وتنام على الارض ليلا من دون وسادة، يجللها الحزن والأسى والوجع، حتى انبثقت ثورة 14 تموز عام 1958 فشعرت بشيء من الارتياح والفرح، وكأن تحقق ما اراده ابنها جعفر وهو ينذر روحه دفاعاً لكل من أحب العراق وأراد له الخير”.

هزت هذه الحادثة ايضاً الجواهري الكبير، فأنشد قصيدته الشهيرة “اخي جعفر” بعد مرور أربعين يوماً من استشهاده وقد ألقيت في جامع الحيدر خانة، حينما اعتلى أحد السلالم وسط الجموع الغاضبة الثائرة وادناه نص القصيدة: 

أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ                           بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ            

فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً                             وليس كآخَرَ يَسترحِمُ           

يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع                     أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا

ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين                          أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا

أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة                             أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم

وأنّ بطونَ العُتاةِ التي                   مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم

وأنَ البغيَّ الذي يدعي                     “من المجد ما لم تَحُزْ “ مريم               

ستَنْهَدُّ إن فارَ هذا الدمُ                       وصوَّتَ هذا الفمُ الأعجم

فيا لكَ مِن مَرهمٍ ما اهتدَى                    إليه الأُساة وما رهَّموا

ويا لكَ من بَلسمٍ يُشتَفى                       به حينَ لا يُرتجى بَلسم

ويا لكَ من مَبسِمٍ عابسٍ                         ثغور الأماني به تَبسِم

أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد                         تظَلُّ عن الثأر تستفهِم

أتعلمُ أنّ جِراحَ الشهيد                       مِن الجُوعِ تَهضِمُ ما تَلهم

تَمُصُّ دماً ثُم تبغي دماً                             وتبقى تُلِحُ وتستطعِم

فقُلْ للمُقيمِ على ذُلّهِ                            هجيناً يُسخَّرُ أو يُلجَم

تَقَحَّمْ ، لُعِنْتَ ، أزيزَ الرَّصاص            وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم

وإذ مرت قبل ايام في السابع من شباط ذكرى استشهاد الثائر جعفر الجواهري، ما أحرانا أن نستلهم الدروس والعبر من هذه الوثبة الكبرى ومن الشهداء الذين طرزوا سماء الوطن بأروع آيات البطولة والتحدي والشموخ، فطوبى لهم وعهداً ان نواصل الدرب، من اجل كل ما من شأنه إعلاء كلمة الوطن.