اخر الاخبار

بعد عزلة دامت حوالي قرن ونصف استندت على مبدا عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، انتقلت الولايات المتحدة الامريكية بعد الحرب العالمية الأولى في سياستها الخارجية الى مبدا « الالتزام « بنشر « القيم ونمط الحياة الامريكية « حول العالم من خلال منظومة مفاهيم جديدة مثل «نشر الديمقراطية « و»التجارة الحرة « و»القانون الدولي» وستراتيجية  «الردع والاحتواء» وسياسة «الهجوم الوقائي» وترسيخ مفهوم « ندسة الموافقة» الذي يحول عالمنا الى عالم ذي بعد واحد، وتتحول فيه التقنية وثورة المعلومات والديمقرطية نفسها الى أدوات هيمنة واستلاب وتزييف للوعي. والحقيقة الكامنة وراء هذه المنظومة المفاهيمية هي سعي الولايات المتحدة الامريكية لتحقيق مجموعة اهداف على رأسها محاصرة الفكر الاشتراكي في جميع ارجاء المعمورة ، واعمام نمط الإنتاج الراسمالي في كل العالم وتكريس هيمنتها على المجتمع الراسمالي، وتعميق حالة عدم التكافؤ و تبعية البلدان الطرفية لبلدان المركز الراسمالية المتقدمة. 

بعد الحرب العالمية الثانية لجات الإدارة الامريكية الى تشكيل فرق من الخبراء الاختصاصيين المحترفين من فروع علمية مختلفة اطلقت عليهم «القراصنة»، مهمتهم ان يسلبوا ملايين الدولارات عن طريق الغش والخداع من دول عديدة في سائر انحاء العالم. كان جون بيركنز، خبير الكهرباء، احد هؤلاء القراصنة، وقام بعد سنوات طويلة بتأليف كتاب «الاغتيال الاقتصادي للأمم» الذي فضح فيه كافة الأساليب التي كان القراصنة يستخدمونها. والاهداف وراء الجهود المضنية التي بذلوها هي لتكبيل بلدان الأطراف بديون ثقيلة افقدتها استقلالها الاقتصادي والسياسي.

كان الاسلوب الأول لعمل القراصنة هو اختلاق مبررات لاقناع بلدان الأطراف بأخذ قروض دولية كبيرة، والاسلوب الثاني، وهو الأهم، العمل على افلاس تلك البلدان المقترضة بحيث تبقى مدينة لدائنيها الى الأبد وتصبح أهدافا سهلة لفرض شروط  سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة عليها.

انتجت تلك السياسة واقعا مأساويا سيظل السمة الأبرز للبلدان التابعة لعقود قادمة، اذ وصلت القروض على هذه البلدان الى 2,5  ترليون دولار وان خدمة تلك القروض بلغت  375 مليون دولار سنويا عام 2004، وهو رقم يفوق ما تنفقه كل الدول التابعة على الصحة والتعليم، ويمثل 20 ضعفا لما تقدمه الدول المتقدمة سنويا من مساعدات خارجية .

رسمت الولايات المتحدة الامريكية مخططا للاستحواذ على العالم اطلقت عليه «المجال العظيم» واستطاعت ان تحوز على 50 في المائة من الثروات العالمية وسيطرت على جانبي المحيط الهادي والاطلسي وغرب أوروبا والشرق الأقصى والمستعمرات البريطانية السابقة ومصادر الطاقة في الشرق الأوسط. وتم اخضاع «المجال العظيم» لمتطلبات الاقتصاد الأمريكي، فاصبحت الدول الصناعية الكبرى ورشا عظيمة تحت اشراف أمريكا، ودول الأطراف مصدرة للمواد الأولية واسواقا لمنتجات دول المركز الصناعية.

تسعى الولايات المتحدة الامريكية الى فتح أسواق بلدان الأطراف امام الشركات متعددة الجنسية عبر منظومة لادارة تلك البلدان من قبل النخب السياسية ورجال الاعمال وقادة الرأي تحت اشراف المنظمات الدولية الثلاث: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية، بشرط الدفاع عن الليبرالية بالمفهوم الأمريكي و»حرية التجارة» والابتعاد عن السياسات المدافعة عن الاقتصاد الوطني.

دفعت الكثير من بلدان الأطراف أثمانا غالية جراء سياسة الاخضاع والاتباع عبر المديونية وخلفت ملايين القتلى والجياع والعاطلين والمهمشين إضافة الى انهيار كبير في المنظومات القيمية لتلك المجتمعات وخرابا كبيرا في اقتصادياتها وموارها الطبيعية والبشرية.

لعب المستشارون والخبراء الامريكان «القراصنة» دورا كبيرا في رسم سياسات العراق بعد 2003 وتوزعوا على كافة الوزارات وقدموا استشاراتهم ونصائحهم التي تحولت الى أوامر وخطط وقوانين على كافة المستويات، ورسمت تلك الخطط هيكل البناء الفوقي لمرحلة ما بعد 2003 وطبيعة البناء التحتي المحطم والمشوه بفعل انهيار القطاعات الإنتاجية العراقية وفق ذلك المخطط المقيت. وكانت نتائج ذلك المشروع ترسيخ تبعية العراق السياسية والاقتصادية من خلال تكريس سمة الاقتصاد العراقي كاقتصاد ريعي توزيعي خدمي وأحادي الجانب بالرغم من توفر العائدات النفطية الهائلة والميزانيات «الانفجارية» الضخمة التي يفترض ان تمكنه من بناء اقتصاد متين يعتمد التنوع في مصادره. وبدلا من ذلك لعبت القوى المرتبطة بالمشروع الاقتصادي الأمريكي دورا كبيرا في وجهة الاستيراد الاستهلاكي والترفي وادخلوه في نفق الانفاق العسكري الهائل والمشروعات الوهمية، وتحول الفساد المالي الى اخطبوط مافيوي ينتشر افقيا وعموديا أدى الى هدر جميع العائدات النفطية الضخمة.

انفقت أمريكا اكثر من 87  مليار دولار في حربها لاحتلال العراق، وتقدر الأمم المتحدة انه بمثل هذا المبلغ الضخم يمكن توفير الماء الصالح للشرب والخدمات الصحية والتعليمية لعدد من الدول. والهدف الرئيس من وراء انفاق هذا المبلغ الكبير هو إبقاء ثروة العراق النفطية الهائلة تحت هيمنة الشركات النفطية إضافة الى أسباب أخرى.

 ان الازمة البنيوية التي عصفت ببلدنا في زمن الدكتاتورية البغيضة والتي تعمقت واخذت ابعادا اكبر بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وخلفت مآسي وكوارث لم يشهدها أي بلد اخر بعد الحرب العالمية الثانية، كشفت، بما لا يقبل الشك، خطل المشروع الأمريكي واللاهثين وراءه في بناء عراق على طريقة الليبرالية الجديدة الامريكية، وفشل مشروع الإسلام السياسي باطرافه المختلفة لبناء دولة «إسلامية» في العراق. وبدلا من إعادة النظر في الأسلوب والادوات التي ساهمت في تخريب العراق كمحاولة لإنقاذ سفينة البلد من  الخطر والغرق الماثل امام عيوننا جميعا، لجاوا الى «بيركنز وطني» يكبل العراق الجريح بديون كبيرة، والانكى والأعجب ان هذه الديون تحظى بشرعية البرلمان العراقي تحت حجج واهية.

ويعد تكريس اتباع بلدان الأطراف وتعميق هيمنة البلدان الراسمالية على تلك البلدان أحد أهم خصائص النظام الدولي، فلم يعد الاحتلال العسكري المباشر ضروريا، فقد برزت وسائل حديثة أثبتت نجاعتها وعمق تأثيرها كبديل للوسائل الكلاسيكية في الاتباع، واهمها سياسة اغراق هذه البلدان بالديون و»تحرير الاقتصاد» التي اخذ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يفرضانها على البلدان التابعة لتهيئة اقتصادها الوطني للاستثمارات الأجنبية وإعادة الهيكلة لصالح الخصخصة، ترافقها تخفيضات حادة في الخدمات الاجتماعية، وهذا ما جرى ويجري بسرعة محمومة في العراق. واعتقد جازما ان الخلاص من مشروع اتباع العراق للقوى الدولية والإقليمية اقتصاديا وسياسيا لا يتحقق الا بتغيير توازن القوى لصالح أصحاب المشروع الوطني الديمقراطي المستقل الذي يمثل غالبية أبناء شعبنا .

المصادر

مقالة «هندسة الاقناع وسياسة الاحتواء والردع» فرحان قاسم - طريق الشعب العدد 132 سنة 2018  

ماذا يقول العم توم - نعوم تشومسكي

سنة 501 الغزو مستمر - نعوم تشومسكي

الاغتيال الاقتصادي للأمم - جون بركنز

الدبلوماسية ج1 - هنري كيسنجر

صندوق النقد الدولي-  د. عودة الحمداني

عرض مقالات: