اخر الاخبار

لقد كان جزءًا من أكثر الذكريات قتامة على النفس، ذلك اليوم الذي نحرت فيه ثورة 14 تموز بسكين المخابرات الأمريكية، ويومها اعترف أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث بعد الانقلاب علي صالح السعدي ، بأنهم جاءوا بقطار امريكي ، وقد قيل إن هاني الفكيكي (عضو القيادة القطرية آنذاك ) أضاف وبإطارات بريطانية ، وكان يوما باردا لكنه ظل ساخنا بأحداث مثيرة للعجب حيث وجد المراقب آنذاك مدى التصاق الشعب بثورته وهو يشاهد الجموع الغفيرة من المطالبين بالسلاح عند جدار وبوابة نادي المهداوي في الباب المعظم للدفاع عن الثورة، رغم القصف الشديد القريب منهم على وزارة الدفاع، وظل ساخنا وشاهدا على رد الشعب العراقي على الانقلاب وعلى بيان رقم 13 الذي أصدره الحاكم العسكري العام يوم ذاك اللواء رشيد مصلح التكريتي (البيان الذي سماه العراقيون سيئ الصيت) وهو يقف إلى جانب قواه التقدمية المتمثلة بالحزب الشيوعي العراقي وهو يتصدى لأعتى طوابير الظلام التي خرجت من جامع حنان عند ساحة الشهداء وهي تتأبط رشاشات بور سعيد المرسلة من الجمهورية العربية المتحدة عن طريق سوريا وبواسطة عبد الحميد السراج، أو تلك الجموع المسلحة التي جاءت من محلة التكارتة والسوق الجديد وأطراف الجعيفر في الكرخ، وكنت تسمع القتال عند أطراف المنصورية قرب مرقد الشيخ معروف الكرخي، أو تسمع تبادل العيارات النارية في منطقة علاوي الحلة أو على جانبي شارع 6 في منطقة الدوريين ، أو تشاهد هتافات الجماهير عند ساحة عبد الناصر أو محلة الكريمات وهي تهتف للثورة وتستنكر الانقلاب . وعبورا لجسر شهداء وثبة كانون عام 1948 كانت دبابات الكتيبة الرابعة التي يقودها العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت تحمل صور الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم للتمويه على انها موالية، لكنها عند وقوفها بالقرب من وزارة الدفاع أخذت تقصف الوزارة تضامنا وتخطيطا مع الانقلابيين.

ان الثامن من شباط كان بحق ودون تردد ، اليوم الذي جر الويلات على العراق، ومنذ ذلك اليوم والعراق لا يعرف الهدوء أو العافية، لقد كان يوما أسود، أظلم بسواده كل تأريخ هذا البلد، فبعد تسعة أشهر من التناحر بين أجنحة حزب البعث، انقلب المشير عارف على البعث في الثامن عشر من تشرين الثاني، حيث كان حكم الصبية من البعثيين الذين انبهروا بالسلطة وهم يحكمون دون خبرة في الحكم أو معرفة بإدارة الدولة، وبعد الحكم العارفي حيث انقلب البعثيون على الجنرال عبد الرحمن عارف عام 1968، جاء حكم البعث الثاني ليدخل العراق مرحلة دولة المنظمة السرية كما يصفها الاستاذ حسن العلوي، ليبدأ حكم القائد الضرورة الذي ادخل العراق بأيام سوداء متعاقبة منها ايام الحروب الداخلية أو حروب خارجية انتهت بالاحتلال ، لتأتي ايام سوداء بعد العام 2003، على يد الدول الموازية أو العميقة .

إن الثامن من شباط كان رد فعل نتيجة لحقد الإقطاع والرأسمال الاقطاعي على منجزات ثورة 14 تموز وفي مقدمتها قانون الإصلاح الزراعي الذي فتت الملكية الزراعية التي كانت حكرا على الأقلية من الاقطاعيين إذ أشارت الإحصائيات آنذاك ان 80 بالمئة من الأراضي الزراعية كانت بيد تلك القلة من الاقطاعيين الذين لا يتجاوز عددهم ال 200 اقطاعي. وأن من أهم الأسباب التي دفعت بالمخابرات الأجنبية للأعداد لهذا الانقلاب هو أن ثورة 14 تموز كانت دون كل الثورات غائبة عن رؤى تلك المخابرات وأنها تفاجأت بذلك الحدث العظيم، خاصة وأن تلك الفترة كانت تشهد أفول نجم الاستعمار القديم وتطور الامبريالية نحو مراحل جديدة، وكان لقرارات الثورة التقدمية ومناصرتها لثورة الجزائر أو مساعدة الفلسطينيين لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أو مشاركتها في إعلان الجمعية العامة  للأمم المتحدة عن تصفية الاستعمار، أو إعلان تلك الجمعية عن حق تقرير المصير للشعوب. كل تلك النشاطات الخارجية كانت بمثابة العداء لقوى الاستعمار، وقد أضافت الثورة إلى كل ذلك أن قامت باستضافة المؤتمر التأسيسي لمنظمة الدول المصدرة للنفط في بغداد والذي تمخض عنه إنشاء منظمة ( أوبك ) العاملة على تحجيم دور الشركات النفطية الاحتكارية حتى اليوم، وفككت الثورة حلف بغداد، وأخرجت العراق من منطقة الاسترليني، وقامت الثورة بإصدار قانون رقم 80 لعام 1961 الذي أوجع حقا الاحتكار وضربه في الصميم، كلها عوامل كانت وراء حقد المخابرات على تلك الثورة الوليدة، واسهاماتها في بناء مجتمع تقدمي يعترف بحقوق المرأة من خلال قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959. وقامت الثورة بأكبر مشاريع الإسكان، وخاصة الإسكان الشعبي، واستبدلت خطوط السكك الحديدية ووضعت العراق على سكة التقدم الاقتصادي.

ان الثامن من شباط كان ولا زال يوما عبوسا لن ينساه العراقيون على مدى جيلنا والأجيال التي تلت جيلنا، وعلى كل مواطن عراقي أن يعلم أن ذاك اليوم كان بداية التراجع لهذا البلد، وانه كان سببا في تعاقب النكبات، وأن التاريخ سجله بأوسع صفحاته على أنه اليوم الاكثر اسودادا في تاريخ العراقيين.