اخر الاخبار

فجر يوم الجمعة 8 شباط 1963 وصلتُ بالقطار الى كركوك في طريقي الى قرية بيانلو (التي عينت في مدرستها معلماً) وفي مطعم صغير قرب بناية المحافظة (اللواء) ركنتُ حقيبتي جانباً وطلبت وجبة كباب وانا اتدفأ بموقد من الفحم. كان ثمة هواء شباطي بارد ومشاكس. وفجأة تراكض مجموعة من الشرطة، وعلا زعيق راديوات  من مصادر بعيدة، سرعان ما تكاثرت، بنداءات مبحوحة. انكمش صاحب المطعم. التفت اليّ. قال باضطراب بائن: انقلاب.  من جانبي لم اتزحزح، لكن دخلت في حسابات الأحداث الموشكة. كنا قد تلقينا من الحزب توجيهات بالحذر من محاولة انقلابية وشيكة. بعد ساعة كانت سيارة بيكاب عسكرية تحمل سماعات كبيرة.. “الله الله الله اكبر.. الله فوق المعتدي” واشخاص بملابس ريفية وعسكرية اعتباطية على ظهرها يهتفون ضد عبدالكريم قاسم. لا أحد في الشارع يتجاوب معهم. قررت ان الوذ بفندق شهرزاد القريب (كنت نزيلا فيه خلال متابعة تعييني). كان الجميع غاضبين ومتوترين. وفيما يقترب المساء كانت مجموعة من عسكرين واشخاص مدنيين يقودهم ضابط، يلوحون بالاسلحة والعصي ويداهمون منازل ومطاعم وفنادق مختارة، يكتّـفون مواطنين ويحملونهم في لوريات. أمروا نزلاء الفندق ان يتجمعوا في الباحة. كانوا يطلبون هويات ويعتقلون من يشاءون. قفز احد الجنود نحوي وهو يصرخ “سيدي، هذا اعرفه.. من مدينتي.. أخطر شيوعي” كانت اخامص البنادق والدونكيات قد انهالت عليّ، وبعد ساعة كنت مطروحا، مدمّى، حافيا، ممزق الثياب في معتقل الانضباط العسكري مع مجموعة صغيرة يبدو انهم من موظفي شركة النفط  وعمال ونقابيين، غالبتهم كورد ومسيحيين، وبعد يومين، إذ تكاثرنا، حشرونا بلوريات عسكرية، مكتوفين الى بعض، وصاروا يتجهون بنا الى بغداد عبر فتحة الزاب. في الطريق الشاق هدّنا التعب والجوع. كنا صامتين لا نكلم بعضنا. عن قصد مهووس لاذلالنا تجولوا بنا في بلدة تكريت التي تحتفل بالشوارع. كان الوقت يقارب الصباح. تلقينا شتائم ومهانات وقشور الفواكه وكمشات الطين. التفت اليّ مهندس مكتّف معي (عرفت ان اسمه وليم تخرج توا من امريكا) قال: هل نحن في العراق؟ لم اشأ ان اناقشه في موضوع ملتبس ومرعب وسابق لأوانه. في معسكر ابو غريب حشرونا في معتقلات عسكرية، حيث وجدنا المئات الذين جاءوا بهم من بيوتهم، مثقفين ونقابيين ومحامين واطباء وشخصيات اجتماعية، عرفت منهم يوسف العاني وعبدالغني مطر وعبدالجليل برتو، وكان اخي “رزاق” بينهم لكن في قاعة ثانية. كانوا يتحدثون بالهمس والاسى عن استشهاد عبدالاحد المالح، ثم توالت اسماء الشهداء الاخرين. ثم.. بدأ الفصل الدرامي من حياتي الذي سيستغرق عامين. بين معتقلات بغداد، ثم كركوك، ثم اقبية الحرس القومي في تكريت والمحمودية، ثم المجلس العرفي الثاني في كركوك الذي قضى بحبسي عاما واحدا، قضيت اشهره الاخيره في سجن بعقوبة، منها شهراً ونصف في الانفرادي، ولم يُطلق سراحي في نهاية مدة الحكم، فارسلتُ محجوزا الى سجن “نقرة السلمان” الصحراوي لأقضي عاما آخر هناك، قبل ان يصدر الامر باطلاق سراحي في شباط من العام 1965. 

عرض مقالات: