اخر الاخبار

تراجع مؤخرا الاهتمام بالفكر النظري الذي اعتبره غالبية السياسيين وحتى المثقفين ترفا أو موضوعا للمتخصصين. وتكاد مسألة الفلاحين أن تكون اكبر ضحايا هذا التراجع لانها هي لم تحظ اصلا بالاهتمام اللائق بطبقة من الشعب تشكل مكونا اساسيا وكبيرا من مجمل السكان, وتركز الاهتمام أساسا علي العمال والمثقفين وسكان المدن، وان كان حتى هذا الاهتمام لا يزال موسميا وعشوائيا واقرب الي السطحية إلا فيما ندر.

وبقيت الدراسات الاكاديمية المتعلقة بالريف والفلاحين نادرة ومعزولة في أطر ضيقة، وأصبحت المدن في الفكر النظري هي محور الاهتمام، رغم أن غالبية السكان يعيشون في الريف في البلدان الفقيرة.

ولطالما شكلت قضية الفلاحين ما يمكن أن نسميه أزمة فكرية لدي مثقفي المدن، وخاصة هؤلاء الذين انحدروا من أصول ريفية وهم يشكلون أغلبية.

وكانت مسألة الفلاحين قد حظيت بمكانة أساسية في كتابات مفكرين درسوا القضايا الاساسية لما نسميه الآن بالعالم الثالث. فدخلت هذه القضية الي مكانة متقدمة في عملهم حتى ان بعضهم اعتبر الفلاحين هم القوى الثورية الوحيدة في العالم الثالث، بينما استبعدوا كل القوى الاخرى أو وجدوا دورها هامشيا، وهو ما لم يؤكده التاريخ الذي اكد على العكس ان الدول كلما تقدمت على طريق التصنيع تقدمت على طريق الحضارة.

ويخبرنا تاريخ الاستعمار كيف ان المحتلين حرصوا دائما على إبقاء البلاد المستعمرة في حالتها البدائية اذ تكون عملية استغلال ثرواتها ميسرة.

ويذكر المتابعون والدارسون لتاريخ مصر كيف ان انجلترا- الدولة المستعمرة – بكسر الميم- ركزت دائما في سعيها لتبرير استعمارها للبلاد على أن مصر دولة زراعية وسوف ينهض المستعمرون بتصنيعها وفقا لمصالحهم واحتياجاتهم.

ولا ينبثق الفكر النظري من الفراغ ولا من أمزجة المفكرين, ولكنه يتكون عبر التجارب والخبرات والممارسات. ويظل من يمتلكون خبرات العمل النظري أقلية. ولكن هذه الاقلية تنتج افكارا وتتكون لديها رؤى بالغة الاهمية ولا غنى عنها لأي دارس متخصص في هذا الميدان.

وتدلنا خبرات المناضلين السياسيين أن عملهم في اوساط الفلاحين هو من أصعب المهام التي يقومون بها، كما تدلنا على ان البلدان التي يشكل الفلاحون فيها اغلبية قدمت لخبراء التنمية دروسا ثمينة ولا غنى عنها لفهم واقع بلدانهم. وسوف تظل بطولة الشعب الفيتنامي المكون اساسا من الفلاحين الفقراء، ستظل هذه التجربة حية في الوجدان الانساني لان لها دلالة عميقة على القدرات المفجرة للشعوب في مواجهة المستعمرين حين تنطلق قدراتهم الكامنة من عقالها فتتجلى مواهب الناس وينجزون ما يشابه الخوارق. يمكن أن تذهب بنا هذه المقدمات الى نتائج خاطئة، مثل تلك التي وقع فيها بعض المفكرين والكتاب في العالم الثالث، حين بدا انهم ينحازون للفلاحين باعتبارهم- من وجهة نظرهم- القوة الثورية الوحيدة, فامعنوا في تجاهل القوى الاخري كأقليات غير مؤثرة.

وثبت في التجربة ان كل التعرجات والانتكاسات في مسيرة البشرية لم تعرقل في خاتمة المطاف حتمية التقدم، خاصة بعد أن اخذ دور العلم يتزايد وتنتج عنه تقنيات جديدة وافكار ورؤى تسهم جميعا في مزيد من التقدم.

ولكن لا تزال امام البشرية مهمات كبيرة اخرى. ويأتي على رأس هذه المهمات جسر الهوة بين الغني والفقر على مستوى كل من الدول والافراد.

ولابد هنا ان نتوقف امام ما اضافه العلم الاجتماعي من مفاهيم جديدة ومن اهمها تعريفه للفقر، اذ لم يعد الفقر هو مجرد شح الموارد المادية, وانما امتد التعريف الى مجالات اوسع كثيرا تبدأ من مستوى التعليم ونوعيته، الى البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية للانسان وتأثير ذلك كله على تكوين الانسان روحيا واجتماعيا، فضلا عن قدرته على التأقلم مع بيئته والعيش مع اقرانه، حيث يتعلم الجميع العمل المشترك والتضامن من أجل بناء عالم جدير بالانسان وابتداع طرائق جديدة للعيش جديرة بانسانيته. انتج البشر ومازالوا ينتجون عبر مسيرتهم هذه قيما وافكارا وثقافات وحضارات. وانجزوا الكثير من المهام التي وضعوها نصب أعينهم. ولكن التقدم الانساني دأب على أن يبتدع مهمات جديدة وطرائق جديدة تتواكب مع التقدم الانساني وتفتح امام البشر آفاقا جديدة لا لتخطي العقبات حسب، وانما ايضا لاجتراح المعجزات.

وتعلمنا التجربة الانسانية كلها ان التاريخ لا يسير في خط مستقيم الى الامام دائما، اذ ان البشرية عرفت الكثير من الانتكاسات والتراجعات والحروب، بل وحتى المجازر. ولكن ذلك كله لم يكن حائلا دون مواصلة التقدم بعد كل انتكاسة. وعلينا فقط أن نتذكر كيف خرجت حرب الاستنزاف التي شنها المصريون ضد العدو الصهيوني من رحم الهزيمة الكبري عام 1967. فلا هزائم دائمة، ولا انتصارات دائمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

“الأهالي” – 24 ايار 2022

عرض مقالات: