اخر الاخبار

إذا لم ننشيء صناعة ثقيلة ونحسن تنظيمها لن نستطيع ان نبني صناعة حقيقية. كانت هذه الفكرة الراسخة والمؤكدة لجيلي حين طرح نظام يوليو مشروع الخطة الخمسية الاولي. وجاء انشاء قلعة الحديد والصلب في حلوان خطوة جبارة علي الطريق, وقد امتلأت الجماهير وبخاصة العمال حماسا واصرارا, وواكب المثقفون هذا الحماس والاصرار بطرح الافكار وهم يبثون الامل في غد مشرق وجديد.

وما كان يلفت النظر في ذلك الحين هو الدور الكبير الذي لعبته الثقافة كجزء عضوي من المشروع التحرري, اذ انها اضاءت الطريق, وظلت حادية مخلصة لكل المدافعين عن المشروع والعاملين عليه باعتباره ترسا في ماكينة التحرر الوطني التي قاومت الاستعمار والاستغلال.

حدث ذلك رغم المرارة والشكوك التي ترسخت في قلوب المهتمين بالشأن العام مثقفين ومهنيين وعمالا، وكان مصدر المرارة والشكوك هو الحملات البوليسية القمعية والظالمة ضد قوي اليسار والشيوعيين بشكل خاص وضد المختلفين عامة. وكانت هذه الحملات قد ارتبطت بعمليات تعذيب واسعة دخل المعتقلات افضت الى موت عدد من المناضلين. وبقي ذلك كله نقطة معتمة بل سوداء في ثوب النظام”الناصري” الذي حظي رغم ذلك بدعم شعبي واسع. ولكن هذا الدعم الشعبي الواسع نما في ظل الخوف والقيود التي فرضتها الدولة البوليسية علي حركة المواطنين مما ادى الي اهدار الطاقات, وتبديد الامكانات الهائلة التي بقيت دائما وعدا شعبيا لم يتحقق منه الا القليل. واصبحت اللامبالاة الشعبية احد العناوين المميزة لهذا العهد.

كان تدمير الصناعة المصرية، وفي القلب منها قلعة “الحديد والصلب”، هدفا رئيسيا لنظام السادات الذي قيل عنه انه مشى علي طريق عبد الناصر. وقال هو ان مصر بلد زراعي. وفي ظل السادات شنت قوى اليمين والتبعية حملة تشهير واسعة ومتواصلة ضد القطاع العام، حتي ان المدافعين عنه من العمال والمثقفين والعاملين لم يجدوا منافذ أو منصات مستعدة لطرح وجهة نظرهم وردورهم على ما رأوا انه كذب وتزوير، واصبح القطاع العام “ملطشة”.

كانت الحملة على القطاع العام مدخلا للهجوم الضاري على فكرة الملكية العامة, وصولا الي اختلاف البراهين والاكاذيب والمقارنات مع نجاح المشروعات الخاصة، والقول بأن الملكية الفردية لوسائل الانتاج هي وحدها الباب الملكي الى التقدم.

ولضراوة الحملة كتب فيليب جلاب رئيس التحرير الراحل “للاهالي” كتيبا اختار له عنوانا صادما متسائلا”هل نهدم السد العالي”؟ اذ كانت قوي اليمين قد احتشدت بكل ثقلها وبدعم من حلفائها العالميين لتشويه المشروع العملاق الذي قيل حينها انه اعظم مشاريع القرن العشرين قاطبة. وقد بني السد العالي عبر معركة قاسية مع منظمات التمويل العالمية، والتي قالت بسبب ارتباطها بقوي الاستعمار العالمي وبالنفوذ الصهيوني، قالت ان الاقتصاد المصري ضعيف ولن يكون قادرا علي تسديد هذا القرض الكبير. وكان هذا الرفض فاتحة لتعامل الدولة المصرية مع البلدان الاشتراكية التي تعرضت لحصار ظالم فرضته عليها قوى الاستعمار العالمي.

وعرفت الثقافة المصرية في معركة السد العالي عملية التثقيف الشعبية الواسعة عبر فنون الغناء والمسرح والسينما والتي تمردت جميعا حينها على مفهوم نخبوية الثقافة في ظل زمان متوهج بالشعور بالكرامة والعزة الوطنية والتطلع الى مستقبل آخر.

كانت قوى التحرر في العالم تحقق النصر تلو الآخر، وارتفعت الروح المعنوية لدي شعوب المستعمرات التي لم تكن قد تخلصت بعد من الاستعمار العسكري بعد المعركة الباسلة التي خاضها الشعب المصري اثر تأميم شركة قناة السويس. وكان الهدف المباشر من هذا التأميم هو بناء السد العالي الذي رفضت القوى الغربية تمويل بنائه. كانت معركة بين ارادة الشعب وغطرسة الاستعمار.

انتقلت حركة الثقافة في ذلك الحين الي مجالات أرحب حين ارتبطت بمشروع التحرر العالمي خاصة في بلدان ما كان يسمى ذلك الحين بالعالم الثالث ابان انقسام العالم بين نظامين رأسمالي واشتراكي.

واخذت حركة الابداع في العالم الثالث تكشف عن الكنوز المخبوءة في وجدان الشعوب التي رزحت طويلا تحت نير الاستعمار. كان هذا الابداع يحمل وعوده الكثيرة للشعوب اذ انه جاء طازجا وصادرا عن قلوب جريحة وعقول فذة لا تقبل المسلمات، فضلا عن رؤيتها الطازجة الحرة للعالم.

وكتبت الاستاذة والروائية الراحلة رضوي عاشور كتابها المميز بعنوان “التابع ينهض” رصدت فيه حركة الابداع في عدد من بلدان العالم الثالث في مواجهة افكار المستعمر ومسلماته التي رفضتها الشعوب وهي تتقدم على طريق التحرر، بل واخذ مفهوم التحرر منه يكتسب مضامين جديدة متجاوزة للفهم الضيق القديم الذي حصر التحرر بمجرد خروج الاستعمار. واصبحت تصفية الاستغلال بكل اشكاله هدفا اصيلا ماتزال الشعوب تناضل لاستكماله، وبعد ان اصبحت ندا قويا لظالميها ماتزال لديها مهمات كبرى لانجازها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الأهالي” – 26 كانون الثاني 2021

عرض مقالات: