اخر الاخبار

مثّل التدخل العسكري الروسي في سورية، الذي انطلق في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، نهاية فترة طويلة كانت روسيا خلالها شبه منسحبة من الاهتمام بشؤون الشرق الأوسط، وهو فضاء كان لها فيه حضور بارز في زمن الاتحاد السوفياتي. وكان التدخل في سورية أول تدخل عسكري روسي خارج مناطق نفوذ روسيا الاتحادية التقليدية في أوروبا، وهو جعل روسيا محاوراً أساسياً لتسوية الأزمات في الشرق الأوسط. وبفضل وجود القوات الروسية في قاعدة طرطوس البحرية، ثم في المنشآت العسكرية الجديدة في اللاذقية، ثبّتت هذه القوات حضورها في “المياه الدافئة” للبحر الأبيض المتوسط. ومما لا شك فيه، فإن تدخل روسيا العسكري في سورية، ومواقفها الحازمة إزاء الغرب فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، سيعززان مكانة روسيا، في نظر دول المنطقة، كحليف أو على الأقل كشريك يمكن الاعتماد عليه، وخصوصاً بعد النكسة الكبيرة التي لحقت بالولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان، علماً أنه كان قد سبق التدخل في سورية، ثم رافقه، نشاط روسي دبلوماسي مكثف في المنطقة، إذ استقبل الرئيس فلاديمير بوتين، ما بين حزيران/ يونيو وتشرين الأول/أكتوبر 2015 فقط ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، كما استقبل العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.

وتتخوف إسرائيل، من ناحيتها، من أن يؤدي الشعور بأن النظام العالمي الذي تهمين عليه الولايات المتحدة الأميركية قد يتضعضع إلى تشجيع أعداء إسرائيل في المنطقة على توسيع عملياتهم التي تستهدفها، كما تتخوف من أن تقوي الأزمة الأوكرانية، وتصاعد التوتر بين المحور الروسي/الصيني والمحور الأميركي/الأوروبي، مواقع إيران في المفاوضات الجارية في فيينا حول برنامجها النووي، وتدفع المحور الغربي إلى تقديم مزيد من التنازلات إليها. وبحسب تقديرات طاقم من الباحثين في معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز هرتسليا المتعدد المجالات، فإن زعزعة النظام العالمي وصعود روسيا والصين كقوتين عالميتين تتحديان الهيمنة الأميركية سينعكس على موازين القوى في الشرق الأوسط، وعلى قدرة إسرائيل على المناورة بين واشنطن وبيجين وموسكو، كما أن صعود النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط سيكون له تأثيرات مباشرة في السباق الإقليمي على التسلح وفي التفوق النوعي العسكري لإسرائيل. كما قد يكون له تداعيات سلبية على الاعتداءات الدورية التي تشنها إسرائيل في سورية ويقيّد حرية عملها فيما تسميه بـ “المعركة بين الحروب”.

والواقع، أن الأزمة الأوكرانية الحالية وضعت إسرائيل في موقف حرج، إذ كان لها في العقد الأخير علاقات جيدة مع روسيا، من جهة، ومع أوكرانيا، من جهة ثانية، ولم يكن عليها في الماضي مواجهة خيار لا ترغب فيه واختيار الطرف الذي يجب أن تؤيده. أما الآن، وبعد التطورات التي طرأت على هذه الأزمة، فقد بات هامش مناورتها ضيقاً، وخصوصاً أن التوترات بين كييف وموسكو تسبب اضطرابات متعلقة بالهوية بين الإسرائيليين من أوكرانيا وأولئك من روسيا، إذ يوجد في إسرائيل ما يقرب من 1.1 مليون يهودي من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، يشكلون 16٪ من السكان اليهود في إسرائيل. وعلى الرغم من أن الإسرائيليين الآخرين يطلقون على هؤلاء اليهود اسم “الروس”، فإنهم يأتون في المقام الأول من أوكرانيا وروسيا وينقسمون بالتساوي بين الناطقين بالأوكرانية والروسية (400000 لكل مجموعة). وبينما دعت وزارة الخارجية الإسرائيلية الإسرائيليين الذين يعيشون في أوكرانيا (حوالي 10000 إلى 15000) للعودة على الفور، يقدّر بعض المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين الكبار أن حوالي 200000 مواطن أوكراني مؤهلون للانتقال إلى إسرائيل بموجب قانون العودة. وفي هذا السياق، قالت وزيرة الهجرة والاستيعاب بنينا تامانو شطا إنها أصدرت تعليمات لوزارتها بالاستعداد لسيناريو تهجير عشرات الآلاف من المهاجرين في حالة هجوم روسي.

وكان وزير الخارجية الإسرائيلية يائير لبيد قد حدد، في 15 شباط/فبراير الجاري، موقف إسرائيل إزاء الأزمة الأوكرانية في حديث أجراه معه رئيس تحرير موقع “تايمز أوف إسرائيل”، فقال إن حماية اليهود في أوكرانيا هو “جزء من مسؤولية الحكومة الإسرائيلية”، كما “كان الحال بالنسبة لليهود الإثيوبيين أثناء الحرب الأهلية أو موجات الجوع هناك”. وتابع، بكل صفاقة، أن قيام دولة بغزو دولة أخرى هو “تصرف يعود للقرن العشرين، وكنا نظن أننا تجاوزنا ذلك”، داعياً إلى إيجاد حل سلمي للأزمة الأوكرانية، ومؤكداً: “نحن في حاجة للاستماع إلى الجميع؛ نحن في حاجة إلى فهم ما يقوله الروس عن مخاوفهم من أن تصبح أوكرانيا دولة في الناتو. ربما نختلف، لكن هذا خوف صحيح وعلينا مناقشته معهم. ونحن في حاجة إلى الاستماع بعناية إلى أوكرانيا، عندما يقولون إننا دولة ذات سيادة ولا يمكنك حل الأمور بالقوة هذه الأيام”. وأنهى لبيد حديثه بالقول إن على إسرائيل “أن تتذكر ما يلي: يجب أن تكون إسرائيل قادرة على حماية نفسها بنفسها...نعم، الولايات المتحدة هي أعظم حليف لنا وأنا أثق بهم تماماً، وهم هبة من السماء، لكن إسرائيل ستدافع عن نفسها بنفسها ويجب أن تتمتع دائماً بالقدرة على القيام بذلك”.

وفي مقابلة أجرتها معه قناة التلفزة الإسرائيلية 12 مساء يوم الأحد في 20 شباط/فبراير الجاري، أي عشية خطاب الرئيس بوتين، أشار لبيد إلى أن إسرائيل ستقف إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية في حال نشوب حرب في أوكرانيا، لكنها تبقى حذرة إزاء الأزمة في هذا البلد، عازياً ذلك إلى سببين: “الأول، ما وصفه بأنه الحدود مع روسيا عبر الحدود مع سورية في إشارة إلى النفوذ الواسع لموسكو في سورية، والثاني، وجود جالية يهودية كبيرة في كل من روسيا وأوكرانيا”. ورداً على سؤال عمّا إذا كانت إسرائيل ستشارك في العقوبات التي قد تفرضها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا في حال إقدام هذه الأخيرة على غزو أوكرانيا، قال لبيد: “علينا أن ندرس ذلك”.

أما على الصعيد الفلسطيني، فالتخوف هو أن تساهم الأزمة الأوكرانية، وتطوراتها، أكثر فأكثر في إبعاد الأنظار على الصعيد العالمي عن القضية الفلسطينية، وتسمح لإسرائيل في الاستمرار بتنفيذ مشاريعها الاحتلالية والاستيطانية، وهو تخوف يفرض على الفلسطينيين تحضير أنفسهم لمعارك شديدة قادمة لن يكون في وسعهم خوضها قبل ترتيب أوضاع بيتهم الداخلي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المحور الأخير من بحث موسع للكاتب

عرض مقالات: