اخر الاخبار

 التحضر (توسع المدن) عملية اجتماعية- اقتصادية معقدة يتغير فيها التوزيع المكاني للسكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية. وهي تتضمن تغيرا في المهن السائدة وأسلوب الحياة والثقافة والسلوك، ومن ثم تغيرا في البنى الديمغرافية والاجتماعية للمناطق الحضرية والريفية. وتكون النتيجة الرئيسة للتحضر هي ارتفاع عدد المستوطنات الحضرية واتساع مساحتها وتزايد حجم سكانها مقارنة بسكان الأرياف.

أزداد السكان الحضر في العالم أكثر من أربعة أضعاف خلال الفترة 1950-2018، من تقدير 0,8 مليار إلى 4,2 مليار نسمة. لذلك كان سكان العالم خلال هذه الفترة يتحولون بسرعة إلى سكان مدن؛ إذ ارتفعت نسبة الحضر من 30 في المئة عام 1950 إلى 55 في المئة عام 2018. ونتيجة هذا التحضر السريع، أصبحت نسبة السكان الحضر عام 2007 أكثر من نسبة سكان الأرياف لأول مرة. ومن المتوقع أن تتواصل عملية التحضر في العقود القادمة وأن تعيش الأغلبية المتزايدة من الجنس البشري في المناطق الحضرية. 

الملاحظ سرعة النمو الحضري في البلدان الأقل نموا، إذ بلغ متوسط المعدل السنوي للنمو الحضري 2,2 في المئة خلال 1950-1970 وأصبح 1,5 في المئة خلال 1990-2018. في حين بلغ المتوسط في البلدان الأكثر تطورا 1,1 في المئة و0,3 في المئة على التوالي. وانتقلت نسبة الحضر في البلدان الأولى من 17,7 في المئة عام 1950 إلى 50,6 في المئة عام 2018، في حين انتقلت في البلدان الثانية من 54,8 في المئة إلى 78,7 في المئة على التوالي، بحسب مصادر الأمم المتحدة. علما في العراق بلغت نسبة السكان الحضر نحو 70 في المئة عام 2019.(1)  

حاولت كتابات مختلفة خصوصا المحسوبة على اليسار ربط عملية التحضر في البلدان النامية بمدرسة الاقتصاد السياسي للتنمية. هذه المقاربة العامة يمكن تصنيفها بأنها تمثل نموذجا لما يسمى بالتحضر الهامشي peripheral urbanization، حتى وإن وجدت اختلافات مهمة بين الكتّاب في هذا الميدان. تاريخيا، هذه المقاربة مشتقة من مقاربة دراسة التنمية لعدد من الكتاب في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين مثل كاردوسو فرناندو وفاليتو انزو (1969) وفرانك جوندر (1969) والرستين عمانوئيل (1974). وترتبط هذه المقاربة بتعزز التوجه الماركسي في الدراسات الحضرية وفي دراسات التنمية عموما في بريطانيا والولايات المتحدة.(2)

ترى نماذج models الماركسية الجديدة أن البنية الداخلية للبلدان النامية تمثل جزءا من النظام العالمي للإنتاج والاستهلاك. وإن إقامة النشاطات الزراعية والتعدينية من جانب الشركات الرأسمالية في بلدان الهامش تدمج تدريجيا القوى العاملة بعلاقات العمل المأجور، وبهذه الطريقة تولد فائض القيمة. ويجري تحويل فائض القيمة المولد إلى الخارج، إما من خلال عمليات الشركات الأجنبية، وإما من خلال العلاقات التجارية غير المتكافئة. وفي كلا الحالتين، فإن الفائض المستخلص لا يكون متاحا للاستثمار في مناطق الإنتاج. أما فائض القيمة الذي يبقى في البلدان النامية فيُستغل من جانب مجموعات النخب، المتركزة أساسا في المدن الرئيسة، لذلك من النادر أن تستفيد منه المناطق الهامشية.

يولد توسع الرأسمالية الهامشية عملية تحضر قوية نتيجة الآتي: أولا، تزداد الهجرة نحو المدن عندما تخرب أشكال الزراعة ما قبل الرأسمالية بسبب اختراق الزراعة التجارية أو استحداث الضرائب النقدية على سكان الأرياف. بالمثل تتولد الهجرة الحضرية عندما تتقوض الصناعة الحرفية في الهامش بسبب الواردات الرخيصة، وفي وقت لاحق بسبب منتجات الصناعة الوطنية. ثانيا، يُستغل الفائض  المتولد في الهامش من جانب مجموعات البرجوازية الوطنية وممثلي مصالح الرأسمالية الأجنبية المتركزة في المراكز الحضرية الرئيسة. وتقود هذه العمليات إلى توسع وسائل النقل والموانئ الرئيسة ومراكز التسوق وإلى النمو السريع للرأسمال الوطني. ثالثا، يظل نمو القطاع الصناعي في البلدان النامية يركز الإنتاج إلى أبعد حد في المدن الكبيرة، ويحفز نمو بيروقراطية الدولة الوطنية تشجيع عملية التصنيع، ويقود إلى تركز أصحاب الدخول العالية في المدن الرئيسة حيث يتراكم الفائض. رابعا، يتحرك العمل نحو أكبر المدن بحثا عن العمل وإنتاج الفائض من خلال كل من العمل المأجور وإنتاج السلع الصغيرة والتي تدعم توسع القطاع الرأسمالي. خامسا، تعمل الدولة على دعم التوسع الصناعي عبر توفير البنى التحتية في المراكز الحضرية الرئيسة ومن خلال إضفاء الشرعية على استمرار عمل النظام عبر توفير الخدمات الاجتماعية لمجموعات سكانية مختارة. علما تحتاج الأنظمة الرأسمالية دولة قوية لدعم كل من عملية تراكم الفائض في القطاع الخاص (من خلال تطوير الاتصالات وتوفير التعليم والخدمات الصحية، الخ) والحفاظ على النظام، وبالتالي ضمان نظام الدولة ونظام إعادة الإنتاج. سادسا، عندما تتسارع التنمية الحضرية، يبدأ رأس المال الخاص عملية عدم التركز في منطقة العاصمة بل يتجه نحو خارج المدينة الرئيسة من أجل تفادي ارتفاع أسعار الأراضي وتكاليف العمل وازدحام المرور. ويمكن أن تشجع الدولة عملية عدم التركز هذه أو تتخذ إجراءات لتشجيعها.

يتمثّل العنصر الأساسي لهذه العملية بحاجة النظام الرأسمالي إلى تراكم رأس المال. ومن الطبيعي، أن تراكم الطبقة المسيطرة بصورة مباشرة ومن خلال سيطرتها على أجهزة الدولة الفائض والذي تعيد تدويره في المناطق الحضرية الأكبر على حساب المناطق الهامشية. لذا ينعكس تأثير ذلك في زيادة التفاوت المناطقي وتقويض الاستقلال الذاتي للمناطق التابعة. وقد يزيد النظام معدل الفقر في المناطق الأفقر من خلال المعدل العالي جدا لاستخلاص الفائض (استغلال مطلق) ولكن قد يؤدي إلى ارتفاع مستويات الدخل فضلا عن ارتفاع معدل استخلاص الفائض من خلال زيادة إنتاجية العمل (الاستغلال النسبي). علما أن العملية الأخيرة تكون أكثر نموذجية خلال مرحلة الرأسمالية الاحتكارية.

يمثّل نموذج التحضر الهامشي تعميما للعلاقة بين الرأسمالية العالمية والتوسع الحضري المحلي وما يتبعه من تغيير. وبقدر ما يبرز هذا النموذج الأدوار الرئيسة التي لعبها التوسع الاستعماري والرأسمالي في عملية التحضر في معظم البلدان النامية، فإن دراسته تُعد تقدما ضروريا ومهما في التفكير في هذا الميدان. وكما هو الحال مع أي مقاربة عائدة للاقتصاد السياسي، فإن لدى هذه المقاربة القوة الرئيسة لربط التحضر بديناميات الصراع الاجتماعي-الطبقي، وبهذه الطريقة تمكنت من إزالة الغموض عن بعض المناقشات ذات الطابع التكنوقراطي بشأن التطور الحضري، كاشفة عن الأبعاد السياسية الهامة للتغيّر الحضري.

وللمقارنة تختلف المقاربة الماركسية بشأن النمو الحضري عن نموذج جون فريدمان (1966) صاحب نموذج المركز-الهامشcentre-periphery  للتحضر في البلدان النامية، وذلك في تبنيها تفسيرا تاريخيا أكثر وضوحا للتغيّر الحضري، وذلك بربط عملية التحضر بالتغيرات العالمية في الإنتاج والتجارة، وفي تبني تفسير واسع النطاق لديناميات التوسع الرأسمالي إلى بلدان الهامش على المستوى العالمي. ومن ثم تتمثّل المكونات الأساسية لهذه المقاربة في محاولة تفسير التغيّر الحضري في البلدان النامية من ناحية صيرورة التطور الرأسمالي العالمي. وبينما كان نموذج فريدمان مهتما بصورة رئيسة بالتحليل على المستويات الوطنية والإقليمية، نجد النموذج الماركسي للتحضر الهامشي مهتما بتأثير الرأسمالية العالمية على الأنظمة الحضرية الوطنية.

أصبح نموذج فريدمان أقل أهمية بالنسبة إلى معظم مجتمعات البلدان النامية، وذلك لأنه افترض أن الاستعمار الأوروبي الأصلي وقع في المناطق ذات الكثافات السكانية القليلة، علما اتصل الأوروبيون في معظم الأماكن التي استعمروها وجه لوجه بأعداد كبيرة من السكان. إضافة إلى ذلك يتعامل النموذج مع الفقر على أنه ظاهرة إقليمية بدلا من كونه ظاهرة اجتماعية. وبالنتيجة فهو نموذج غير سياسي إلى حد كبير، لذلك لا يتناسب مع البلدان النامية على الإطلاق.

 الهوامش

ــــــــــ

 1 - قمنا بحساب هذه النسبة استنادا إلى اسقاطات سكان العراق لعام 2019 للجهاز المركز للإحصاء.

2 - للمزيد حول الدراسات الحضرية في هذين البلدين، أنظر الكتاب التالي خصوصا الفصل الخامس المعنون، العودة إلى المستقبل: الماركسية والسياسة الحضرية، إذ يشير فيه المؤلف الأول إن “الموجة الجديدة من البحث الماركسي في السياسة الحضرية طال انتظارها”.

Jonathan Davies and David Imbroscio, Critical Urban Studies: New Direction (Albany: State University of New York, 2010).

 المصادر

ــــــــــ

- Alan Gibert and Josef Gugler, Cities, Poverty and Development: Urbanization in the Third World, 2 edition (Oxford University Press, 1993).

- UN, World Urbanization Prospects: The 2018 Revision (New York, 2019).

- الجهاز المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية السنوية 2019 (بغداد: 2020).

عرض مقالات: