اخر الاخبار

يزخر التراث الفكري الشرقي عموماً، بالعديد من الرؤى والافكار والقيم، التي تفصح عن أن هذا التراث، يعكس نمطاً من الوعي بالقضايا التي تهم الانسان ككائن اجتماعي حر، ويمكن القول، إن التأمل، والبحث والنزعة الانسانية هي أدوات ملازمة لمختلف جوانب هذا التراث، المادي منه واللامادي، في إطار سعي الانسان ومنذ أن وعى ذاته، و وعى علاقته مع الطبيعة، وراح ينشد الخلاص، والانعتاق من كل صنوف القهر. والمثل يقول: انجُ سعدُ فقد هَلكَ سعيدٌ.

 1

يُحكى أن الفيلسوف الصيني “تسوانغ تسي” من أهل القرن الرابع قبل الميلاد و”هوي تسي” مفكر وفيلسوف وأديب صيني مشهور. كانا يسيران معاً ذات يوم على ضفة النهر، فقال تسوانغ تسي: هذا السمك يسبح في الماء حراً، ما أسعده؟ فرد هوي تسي: أنت لست سمكة فكيف تعرف أن السمك سعيد؟ أجاب تسوانغ تسي: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف أن السمك سعيد؟ قال هوي تسي: لأن أنا لست أنت، فلا أعرف كيف تفكر، ولأنك لست سمكة، فلا تعرف أن السمك سعيد.

 2

الرأي يختلف باختلاف الموقع والمكان والزمان الذي تضع نفسك في إطاره، هذا صحيح، ولكن من المتعين علينا أن نتعامل مع بعضنا من منطق آخر. أفرض أنك تجادلت معي. فإذا غلبتني بدلاً من أن أغلبك فهل أنا بالضرورة على باطل؟ وإذا غلبتك بدلاً من أن تغلبني فهل أنا بالضرورة على حق؟ هل أحدنا محق والآخر مخطئ؟ أو هل كلانا محق وكلانا مخطئ؟ لا أنا ولا أنت نعرف ذلك ولا سوانا. من ينبغي أن نسأل ليعطي القرار الصحيح؟ قد تسأل أحداً يتفق معك ولكن مادام يتفق معك كيف يمكنه صوغ القرار؟ وقد تسأل أحداً يتفق معي ولكن مادام يتفق معي كيف يمكنه صوغ القرار؟

 3

هذه التساؤلات أقلقت الفيلسوف تسوانغ تسي فصنع منها تمرينات فلسفية لتلاميذه كي يغرس في نفوسهم معرفة حية ضد الشخصية القمعية المستبدة. فالإنسان حر في رأيه لا يُذلُّ لأحد ولا يقمع أحداً. ورفض الذل وتحمل ضغط الحاجة لصون كرامة النفس البشرية هي لزوم الحر الذي لا يخضع لعبودية غير عبودية الخالق. والإنسان الحر لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء، فالملك لا يكون لأحد، بل لجميع الخلق، حتى لا يعلو أحد على أحد. فالمالك للشيء مملوك له-على حدِّ تعبير هادي العلوي- ومن أراد الحرية فليخرج من ملكوت الرغبة، وبيوت أصحاب رأس المال لا تصحُّ فيها الصلاة ومن استمع إليهم لم تدخل الحكمة إلى قلبه. لابد أن تجوع مع الجائعين فذلك هو شرط المعرفة وتلتحف بالمنافي، فذلك هو شرط الحرية.

 4

وفي هذا السياق يخبرنا شيخنا الجليل عبد القادر الكيلاني المتوفي في بغداد عام 561 من الهجرة أن وظيفة الحكيم أو الفيلسوف أو الحاكم الراعي هي خدمة الخلق المتعبين، وإيجاد الراحة لهم، وهذا يكون بتوفير الطعام للجياع وأهل السبيل، ليخرجوا من ذلِّ الحاجة. وكان يقول فيما ورد عنه في كتاب “قلائد الجواهر: فتشت الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الجياع. أود لو كانت الدنيا في يدي لأطعمها للجياع. وهذا يعني جعل ثروات الأرض مشاعاً للجياع. وانظر إلى هؤلاء الجياع المساكين الذين يجوبون شوارع المدن المكتظة بالمتخمين ويطالبون بحقهم الأبدي من “مال الله”، إن وجود هؤلاء في الأرض هو بحد ذاته توبيخ من الله للناس المترفين الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله.

 5

وما زالت الدنيا تدور بعيدة عن ملك الجياع. فإذا كنت تريد ان تعرف أن السمك سعيد أو غير سعيد عليك أن تصبح سمكة أولاً، أو على الأقل تعرف عادات السمك ومعلومات جيدة عنه، ومن ثم قد تعرف ما إذا كان السمك سعيداً أو غير سعيد. ومن السعيد هنا، هل هو سمك البحار المفتوحة، أم سمك الزينة في الأحواض الجميلة الضيقة، أم سمك الأنهار العذبة الجارية المتدفقة بغزارة شلال، أم سمك البحيرات المغلقة، أم سمك السردين المسجون في تلك العُلب المستطيلة صفراء اللون المغلقة والمشهورة عالمياً، أم سمك التونة المقتول والموزع في أوعية التونة الدائرية التي تُباع في سوبر ماركات العالم، أم سمك السلمون بين أنياب الدببة على شلالات الأنهار وهي في طريقها صعوداً إلى موطنها لوضع بيوضها، أم سمك السلَّور الذي يعيش بصعوبة في ما تبقى من مياه نهر العاصي في بلدة “دركوش” من ريف محافظة إدلب في الشمال السوري؟ أم سمك الشبوط في نهر دجلة الحزين في بغداد؟ الخوف كل الخوف أن تكون حياة السمك غاية في التعاسة بينما تراها أنت في غاية السعادة. ما العمل؟

 6

في الحقيقة إن احترام الآخر وفهمه شرط أساسي لكل ما نريد أن نفعله. تختلف آراء الناس، ولكنهم يحتاجون إلى التعاون، وأساس التعاون هو التفاهم الذي يزيل الخلاف بين الأطراف ذات العلاقة في عالم متنوع. والحكيم من ينصح، مثل السماء تغطي كل شيء دون انحياز، ومثل الأرض تحمل كل شيء دون انحياز. تذكر جيداً أنك لست سمكة ولهذا فأنت لا تعرف أن السمك سعيد. وقد سأل تسوانغ تسي ذات مرة: كيف تنال الأنهار الكبيرة والبحار ملوكيتها على مئات الجداول والبحيرات؟ تنال هذه المكانة من خلال أحقيتها في أن تكون أوطأ منها. ذلك ما يجعلها تنال ملوكيتها. فالحكيم لكي يكون فوق الناس يجب أن يتكلم كما لو أنه أوطأ منهم. ومن أجل أن يهديهم يجب أن يضع نفسه وراءهم، بحيث إذا كان فوقهم لا يثقل ظهورهم وسيكون كل ما تحت السماء مسروراً لأنه مُدار به ولا يجدون في قيادته لهم ما يُكدر عيشهم. الحكيم لا يزج نفسه في منافسة وبالتالي فلا أحد ينافسه، حتى ولا ذلك السمك الذي يسبح في الماء حراً سعيداً. أنا لستُ سمكة، فكيف أعرف أن السمك سعيد؟

عرض مقالات: