اخر الاخبار

  “مقدمة المترجم: يعتبر العالم كاتاسونوف من العلماء البارزين في شؤون الرأسمالية المعاصرة ودورها في النزاعات الدولية، وتأجيجها. وهذه المقالة ذات أهمية لكونها تعالج قضية حيوية هي مآل البيئة في كوكبنا، والصراع الدائر حول البحث عن السبل لمعالجة الإضرار التي لحقت وتلحق حتى الآن بالبيئة. فلم يعد سراً أن مصادر الطاقة من النفط والمواد العضوية تشكل خطراً جدياً على مصير الكرة الأرضية نفسها. كما إن محاولات التخفيف من الآثار السلبية لاستخدام تلك المصادر، والانتقال إلى استخدام المحركات الكهربائية في السيارات على سبيل المثال لم يحل المشكلة لأن مثل هذا الحل يحتاج إلى عنصر الليثيوم الذي تحتاج إليه لصناعة البطاريات، والذي يخلف عوادم تضيف نفايات وسموم إضافية على البيئة، ناهيك عن حدوث موجة وحمى في إزالة الغابات للبحث عن الليثيوم في أمريكا اللاتينية التي الحقت بدورها الأضرار بالبيئة والمناخ في العالم. ولهذا بادر العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة إلى اختراع طريقة جديدة نسبياً عن طريق التعامل مع الدمج النووي لذرة الهيدروجين وإنتاج طاقة صديقة للبيئة يمكن الاستفادة منها بطرق عملية. وقد طبقت هذه الطريقة جزئياً على محركات السيارات. هذا الاختراع الجديد، شأنه في ذلك شأن كل الاختراعات التي حدثت في التاريخ، خلق خصوماً أشداء له تتعارض مصالحهم الأنانية وأرباحهم مع الاختراع الجديد. وربما أن الجدل والنزاع الحاد الذي بلغ حدأً خطيراً بالهجوم على الكابيتول وإحالة دونالد ترامب إلى محاكمة الكونغرس للمرة الثانية، هو جزء من الصراع بين الاحتكارات النفطية المتمركزة في جنوب الولايات المتحدة وبين الاحتكارات المتمركزة في الشمال حول الموقف من الأخطار التي تحيط بالبيئة. كما أن الخلاف نفسه ينعكس على الخلافات بين الإدارة الأمريكية الحالية وبين الإتحاد الأوربي على خلفية الموقف من علاج التلوث البيئي في كوكبنا. والاختراع الجديد، إذا ما أخذ مداه، سيزيل عامل النفط والغاز من الصراعات الدولية، ويقلل من قيمته ومكانة منتجيه في العالم”.

إن تنبؤ “ساكسو بنك” رقم 5، في سلسلة من التنبؤات الصادمة تشير على النحو التالي: “إن التطورات الثورية في مجال الطاقة النووية الحرارية ستوفر وفرة من موارد الطاقة”. إن صاحب هذه التوقعات هو بيتر غارنري، رئيس قسم استراتيجية الأوراق المالية في البنك. في بداية التوقعات، يذكرنا بيتر غارنري بثورة الطاقة العظيمة التي كانت جزءًا من الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ويقول: “لم يكن تقدم المجتمع البشري على مدى الـ 250 عامًا الماضية ممكنًا إلا من خلال استخدام قدرات طاقة متزايدة الكثافة. ومن الخشب والفحم إلى الوقود الأحفوري، أصبحت الصناعات الجديدة ممكنة بفضل مصادر طاقة عالية الكثافة، كما أنها زادت من إنتاجية المجتمع ورفاهيته”. ويتوقع المؤلف أن خطط تطوير اقتصاد قائم على تقنيات جديدة ستتطلب المزيد من الطاقة: “وإذا نظرنا إلى التقنيات الواعدة في المستقبل، من القطارات الفراغية والذكاء الاصطناعي إلى إنتاج الهيدروجين عن طريق التحليل

 الكهربائي وتحلية المياه، فإن مصادر الطاقة الأرخص ذات الكثافة الأعلى هي المفتاح. إذا استمر اقتصادنا في النمو بوتيرة قريبة من وتيرته التاريخية، فسنحتاج إلى المزيد من الطاقة”. نعم، يوجد اليوم العديد من الخطط في مجال تطوير الطاقة. بادئ ذي بدء، ونظراً لتطوير مصادر الطاقة البديلة، والتي، كما قيل لنا، ستكون أكثر صداقة للبيئة. ولكن مع ذلك، وفقاً لصاحب النبوءة، سيتم تعويض الأعباء البيئية المنخفضة للمصادر البديلة وطرق الحصول على الطاقة من خلال الكميات المتزايدة من الطاقة المنتجة. ونتيجة لذلك، لن يكون من الممكن تقليل الضرر البيئي الإجمالي لقطاع الطاقة، بل سيزداد. “وبالنسبة للجزء الأكبر، لا يمكن حل هذه المشكلة بمساعدة مصادر الطاقة البديلة وتقنيات توليد الكهرباء باستخدام طريقة صديقة للبيئة. نعم، قد تكون أقل ضرراً بالبيئة، لكن تأثير الطاقة منخفضة الكثافة على النظام بأكمله يعني أنها خطوة كبيرة جداً إلى الوراء. يحتاج العالم الآن أكثر من أي وقت مضى إلى تغيير تقنيات الطاقة بشكل جذري.  يرى مؤلف التنبؤ أن الحل للمشكلة يكمن في الذكاء الاصطناعي (AI)، والذي سيعلمنا بكيفية “تحسين” الطاقة. لسبب ما، يعتقد المؤلف أن الذكاء الاصطناعي سيمهد الطريق لمثل هذا الاتجاه في تطوير الطاقة غير التقليدية مثل الطاقة النووية الحرارية: “في عام 2021، تحل لوغاريثمات الذكاء الاصطناعي المحسّنة مشاكل فيزياء البلازما غير الخطية ذات التعقيد المذهل، مما يمهد الطريق لاستخدام الطاقة النووية الحرارية للأغراض التجارية”.

يبدو أن المؤلف يشير إلى نوع معين من المفاعلات النووية الحرارية، والتي تم تطويره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وفي عام 2020 تم تعديلها بشكل كبير باستخدام الذكاء الاصطناعي. اسم المفاعل هو SPARC: “وقام المهندسون بمراجعة تصميم SPARC من خلال إضافة نماذج جديدة تهدف إلى تحقيق المزيد من الطاقة قدرها 20، مما سيؤدي إلى أكبر ثورة في تكنولوجيا الطاقة منذ اكتشاف الطاقة النووية”.

إن SPARC معروف جيداً لدى الخبراء. فهو يرمز إلى معمار المعالجات القابلة للتطوير، والتي يمكن ترجمتها على أنها “بنية معالج قابلة للتطوير”. تم إنشاء المتغيرات الأولى لمثل هذه الهندسة في عام 1985 من قبل الشركة الأمريكية Sun Microsystems، وهي شركة مصنعة للأجهزة والبرامج، إحدى شركات Silicon Valley. وفي عامي 2009-2010 تم الاستيلاء عليها من قبل شركة أوراكل الأمريكية العملاقة لتكنولوجيا المعلومات. وتم تطوير هندسة SPARC من قبل منظمة غير ربحية مستقلة SPARC International، Inc، التي تأسست عام 1989. والعضوية في SPARC International مفتوحة للجميع. إن فيزياء الاندماج النووي الحراري معروفة بالفعل بأدق التفاصيل من قبل المطورين، وبالتالي فإن مشروع SPARC يهدف حصرياً إلى إنشاء تطبيق رقمي فعال للمفاعل. ويتعامل مشروع SPARC مع الاندماج “الساخن”، ومن أجل الوضوح يسمى “حرق البلازما” أو “الشمس الاصطناعية”. ويوجد أيضاً اندماج “بارد”، لكن احتمالات تطبيقه العملي غير مؤكدة أكثر. لا أعتقد أن مؤلف التوقعات لديه معرفة عميقة في مجال الطاقة النووية الحرارية، حيث يتم تقديمه على أنه تاجر بنك في سوق الأوراق المالية. أعتقد أنه أعاد إنتاج الإحساس الذي بدا في خريف عام 2020 فقط. كان مصدر الإحساس هو النشر في عدد سبتمبر من المجلة العلمية والتقنية الأمريكية Journal of Plasma Physics. هذا هو مفاعل اختبار SPARC. تقول المقالة أنه إذا وصل مفاعل اختبار الاندماج فعلياً إلى مرحلة الكفاءة المذكورة أعلاه، فقد يفتح الطريق أمام الإنتاج الضخم للطاقة النظيفة. يمكن أن يصبح المفاعل الاندماجي القابل للحياة والذي ينتج طاقة أكثر بكثير مما يستهلكه جاهزًا بحلول عام 2025.

يلفت العلماء والمهندسون المرتبطون بمشروع SPARC، وكذلك الصحفيون الذين يكتبون حول هذا الموضوع، الانتباه إلى حقيقة أن الاندماج “الساخن” له مزايا لا يمكن إنكارها على مصادر الطاقة البديلة الأخرى. أولاً، إنه مصدر لا ينضب. وقود الاندماج هو الهيدروجين، والذي سوف يستمر لملايين السنين. ثانياً، وفقاً لأنصار هذا النوع من الطاقة، فإن ميزته هي الغياب التام للنفايات الضارة. فالاندماج لا ينتج الغازات الدفيئة، ولا تنبعث منه مواد ضارة تلوث الغلاف الجوي، ولا يخلق حالات طوارئ خطيرة. حتى لو ظهر نوع من الخلل. فإن أقصى تداعياته سيكون إطلاق الهيدروجين الآمن للبشر. ولا توجد مشكلة في التخلص من الوقود المشع المستهلك. قال مارتن ج. غرينوالد، أحد المطورين الرئيسيين لـ SPARC لفيزياء البلازما في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: “لقد أجرينا هذا البحث لأننا نحاول حل مشكلة عالمية كبيرة حقًا، نريد أن يكون لنا تأثير على المجتمع. نحن بحاجة إلى حل لمشكلة الاحتباس الحراري، وإلا فإن الحضارة ستكون في مأزق. يبدو أن التحول إلى توليد الطاقة النووية الحرارية يمكن أن يساعد في تصحيح الوضع “. ويكرر تقرير ساكسو بنك اعتبارات مماثلة في توقعاته: “إن إتقان تقنيات الحصول على الطاقة النووية الحرارية سيفتح الأبواب لعالم لم يعد فيه نقص في المياه أو الطعام، والذي سيصبح ممكناً بفضل تحلية المياه والمزارع العمودية. سيكون لهذا العالم وسائل نقل رخيصة، واستخدام بدون عوائق للروبوتات والأتمتة الصناعية، وهذا سيؤدي إلى حقيقة أن الجيل الحالي من الشباب لن يحتاجوا إلى العمل بدافع العوز. أما ماذا عن التخفيضات الجانبية في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بالتوازي مع تباطؤ تغير المناخ؟ علاوة على ذلك، فبفضل الطاقة الاندماجية، ستصبح كل دولة تقريباً مستقلة من حيث إنتاج الغذاء والطاقة وستشهد زيادة في مستويات المعيشة بمعدلات سريعة لم يشهدها العالم على الإطلاق “.

وسيحل هذا المستقبل الزاهر قريباً جداً، وفقاً لبيتر غارنري، والمفتاح لذلك هو “الاندماج الحراري” SPARC. ويعتقد بيتر غارنري: “مما يتخذ أهمية في هذا الصدد هو حقيقة أن هناك استثمارات ضخمة من الدولة والقطاع الخاص ستسمح بأن تصبح مصدر الطاقة النووية الحرارية في السنوات القليلة المقبلة. من الواضح هنا أن المتنبئ بالمستقبل في عجلة من أمره. وحتى مديري المفاعل SPARC يخططون بحيث لا يظهر إلى الوجود أول مفاعل صالح للخدمة قبل عام 2025. حتى لو بدأ الإنتاج بالجملة لهذا المفاعل، فهذا لا يعني على الإطلاق أن الإدخال السريع لـ “الاندماج الحراري” في الحياة سيعود بالفائدة على مليارات البشر على الأرض. لقد حصلت اختراقات علمية - تكنولوجية في تاريخ البشرية، بما في ذلك في قطاع الطاقة، لكن المستفيدين من الابتكارات التقنية كانت على الدوام الشركات الكبرى التي قامت بخلق أسواق جديدة، والتي سيطروا عليها وتحركوا صوب الجنوب الذي يحتاج إليها.

لقد حدثت مواقف عكسية: فقد فرضت أكبر الشركات التي اجتاحت هذا السوق أو ذاك، حصاراً على تطوير التكنولوجيا الجديدة التي يمكن لها أن تهدد مواقع شركات كبرى أو احتكارات.  لنأخذ على سبيل المثال الطاقة النووية، التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي قامت على سلسلة تفاعلات الانشطار النووي للبلوتونيوم 239 أو اليورانيوم 235. وتم بناء أول محطة للطاقة النووية في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في عام 1954 (أوبنينسك). بالطبع، استخدم الجيل الأول من محطات الطاقة النووية تقنيات لا تستبعد حدوث مخاطر وحتى تسرب المواد المشعة. وزادت بمرور الوقت الثقة بالمفاعلات. كما أخبرني أحد معارفي من الفيزيائيين النوويين في العهد السوفياتي، لقد تم إنشاء “حماية موثوقة متعددة المستويات لمواجهة الحمقى” في المحطة النووية.

في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، شهد العالم طفرة في تطوير الطاقة النووية. واتفق حتى أكبر المتشككين على أنه بحلول نهاية القرن، سيتم توليد معظم كهرباء العالم بواسطة محطات الطاقة النووية.

ومع ذلك، فإن صناعة الطاقة النووية “تعثرت” فجأة. ووقعت سلسلة من الحوادث والكوارث في محطات الطاقة النووية في جميع أنحاء العالم. وحصلت كارثتان تركت صدى في العالم بشكل خاص، في محطة الطاقة النووية الأمريكية في “ثري مايل آيلاند” (بنسلفانيا) في 28 آذار عام 1979 وفي محطة الطاقة النووية السوفيتية في تشيرنوبيل في 26 نيسان 1986. وأضحى عقد الثمانينيات من القرن العشرين الفترة التي بدأت فيها الهستيريا المضادة للأسلحة النووية في العالم. وتوقف بناء محطات الطاقة النووية الجديدة في كل مكان. وتم إيقاف تشغيل عدد من محطات الطاقة النووية العاملة. وهذه الحملة ضد الأسلحة النووية لها رائحة كريهة للغاية. وهناك أدلة كثيرة على أن الحوادث التي وقعت لم تكن نتيجة “مصادفة قاتلة” أو إهمال، بل أنها من صنع الإنسان، ونتيجة لعمليات مخطط لها مسبقاً.

من هو المستفيد من هذه الأفعال؟ لا بد إنهم هؤلاء الذين هددت الطاقة النووية مصالحهم. والحديث يدور عن الاحتكارات التي اجتاحت سوق الهيدروكاربونات (النفط والغاز) في العالم التي تعرضت مصالحها بفقدان أسواقها وفي المقام الأول كارتلات النفط السبعة التي أعلنت الحرب على الطاقة النووية.

للأسف، لا يتذكر أحد اليوم الظروف الغريبة التي صاحبت الكوارث الذرية في أواخر القرن العشرين، كما لا يتذكر أحد تقريباً الظروف الغريبة التي أحاطت بالعمل الإرهابي في الحادي عشر من أيلول عام 2001. ومن يريد التعرف على الدور الذي لعبه عمالقة النفط الأمريكان في تحديد مسار تنمية الطاقة في العالم، بما في ذلك الطاقة النووية، نوصي بالاطلاع على كتاب عالم الاقتصاد والسياسة الأمريكي ويليام إنغدال المعنون “قرن من الحرب، سياسة النفط الأنجلو- أمريكية والنظام العالمي الجديد”. أن مؤلف التنبؤات الذي أصدره ساكسو بانك لديه قصور في فهم القوى الدافعة التي تحدد اتجاه التنمية وهيكل الطاقة العالمية. وإن فكرته القائلة بأن مستقيل الطاقة تحدده الاكتشافات العلمية والتقنيات الجديدة هي فكرة ساذجة للغاية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فالنتين يوريفيتش كاتاسونوف اقتصادي روسي، ولد في الخامس من نيسان عام 1950 في الاتحاد السوفييتي. عالم يحمل لقب الدكتوراه في العلوم الاقتصادية. خبير في ميدان استثمار الموارد الطبيعية والشؤون المالية الدولية (البنوك ودور الذهب في الشؤون المالية الدولية). مؤلف لعديد من الكتب والكتب التعليمية، ومساهم نشط في وسائل الإعلام.

عرض مقالات: