اخر الاخبار

أضاء الصباح جنبات الطريق الذي يخترق المدينة الصغيرة التي تقبع في قلب الفرات من العراق، واطلقت الشمس في ساعة باكرة من يوم الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني 1959 شعاعا باهتاً من أشعتها على النافذة الوحيدة من سكن العم سعيد، لتوقظ الرجل من نومه، قبل ان يصحو على نقر دمام حزين بات صوته يغرق مسمع الرجل خوفاً ووجلاً .. وليخبره انه في يومنا هذا قد انطفأت روح الجمال بذكرى حزنه، وغاض السرور من الالوان والنعم والبهجة، الا اللون الاسود الذي امتزج بصوت مطرق الدمام الأعزب .

ثم بدء الصوت يصرخ في ارتفاع يتلوه صمت شديد الحزن حتى جفت فيه مواقيت افطار صباح العم سعيد. كان حامل الدمام يومها رجلا أسمر السحنة ممشوق القامة عيناه يقظتان بلا نعاس، يقرع دمامه الكبير بشكل متقطع ليطلق حزناً يتبعه صدى أشد وقعاً ليشتق حزنه بصمت من احزان جذرها أرض اسمها السواد، انتابها القهر على مر التاريخ بجراح عميقة لم تندمل بعد، انها بلاد مابين النهرين.

يروي العم سعيد كيف تحولت مدينتهم الصغيرة، التي احتضنتها كثافة زروع الارض التي لامست مجرى الفرات من كل صوب، الى ارض مقفلة في ذلك النهار باستثناء المسير البشري الذي ظلله تزاحم المزارعين وهم يتثاقلون فرادى بارجلهم وباصطفاف منتظم، بات فيه الرجل الاول يتقدم على الثان، زاحفين سيراً بالتوالي وكأنهم قطيع نمل خرج ببطء من جحوره غير آبه سعيا وراء حبات من القمح تسد رمقهم. فيومها امتزج العقال العربي الذي اعتمر رؤوس المزارعين بنسيجه الفراتي الاصيل ولونه الداكن مع خرقة القماش السوداء المهلهلة التي رقدت بثبات في اعلى شمال جلابيبهم الفاقعة اللون كافة لتغلبها نسائم الصبح الباردة وتقلبها يميناً وهي تداعب بلا ريب تلابيب عقولهم وجروح قلوبهم التي اغرورقت بدموع الحزن الانساني.

ولكن لماذا هذا المسير اللافت في هذا اليوم تحديداً؟ تساءل العم سعيد قبل ان يتأهب مسرعاً للذهاب الى عمله، متطلعا الى قائد ذلك المسير وهو يطرق ابواب الحزن بدمامه وكانما يقطر دماً!! آه من هذا الرجل الضعيف الواثب الطويل، ذي السمرة الداكنة، الذي يتطلع بنظرات ساخنة شديدة التأثير تغشاه كآبة في يوم قارص اشتد برده.. ولكن سرعان ما نسيت.. لا أتذكر انه المزارع السياسي ابن العم جاسب الذي تعود أن يقرأ في مقهانا نصوصا من كتاب لينين ((ما العمل).. وهو الكتاب الذي نشر عام 1902 والذي يتطرق فيه لينين الى اهمية التثقيف الماركسي لتحريك الطبقة العاملة للمطالبة بظروف عمل افضل واجور اعلى.

حقا انه ابن العم جاسب الذي كان يواظب على زيارتي في بعض الاعياد والمناسبات، فنشات بيني وبينه صداقة وهو رجل شديد الابتسامة، الا انه قد حلت به اليوم قوة حزينة وهو يمارس تقاليد تخنق الانفاس. ناديته، يقول العم سعيد، بصوت خافت: ما الخطب يارجل ؟ وهو يضرب بدمامه وخلفه جموع ثكلى من المزارعين، ثم تواصلت نداءاتي كي استعلم المسير ورمزيته ولكن من دون جدوى، اذ ان وجدان ابن العم جاسب وهو يحمل دمامه لم يتسع لسماع صوت آخر وظل دون اكتراث لأحد. وقف العم سعيد بكل ثقله يراقب ما يحدث بعينين طافحتين بالعجب والصمت وهو مشحن بالصبر. هنا جاءت الاجابة بصورة تلقائية من أحد المارة الذي سأله العم سعيد، وبحزن وزفير شديد القساوة، قائلاً: ألم تعلم ايها الرجل ان اليوم هو الذكرى الرابعة والثلاثين لوفاة زعيم الثورة الروسية البلشفية فلاديمير لينين الذي مات في مثل هذا اليوم من العام 1924 ! ألم تتذكر انه في 30 آب  1918 تعرض لينين الى حادث اطلاق نار في العاشرة ليلاً اثناء مغادرته مصنع (ميكلسون) في احدى ضواحي موسكو واستقرت ثلاث اطلاقات في جسمه، وان الجريمة فعلتها فتاة لم تبلغ من العمر يومها ثمانية وعشرين عاما وتدعى فاني كابلان وهي من الحزب الاشتراكي الروسي الثوري ؟ أتتذكر كيف جرى اعدامها بعد اربع ساعات من الحادث وقطعت جثتها أربا اربا انتقاماً لفعلتها الشنيعة ؟ أجابه العم سعيد بدهشة: نعم. وواصل الرجل قائلاً: ان موسكو قد دخلت حزنها ولبست سوادها منذ يوم امس والعالم كله يقدم قسط الحب والوفاء لقائد الثورة العمالية في ذكرى وفاته في العام 1924. وهنا اخذ قلب العم سعيد يتمزق عطفاً وهو يقول لمحدثه: قد اضطر بنفسي للانضمام الى المسير ! ولكن لماذا هذا الحزن الشديد على الرجل في مدينتنا الفراتية الصغيرة والحادث يبعد عن بلادنا كثيراً؟ أجابه الرجل انه زعيم الثورة البلشفية في العام  1917ونحن، فلاحي الفرات، لن تخفت احزاننا .. ثم أخذ المتحدث يبكي بحرقة حتى جف ماء عينيه.

ويقول العم سعيد انه من شدة احزان مدينتا الصغيرة ظننت إن لينين لم يمت ولكنهم غدروه واختفى بوسيلة خائنه.هنا توقف العم سعيد عن الكلام هنيهة وتوجه الى محدثه قائلاً: ان استمرار بكائنا لن يغير من الامر شيئاً، اجابني : اذن لنراقب الموكب حتى نهايته .. فاجبته نعم .. سينتهي المسير ونحن لا نشهد من الزمن الا اللحظة العابرة .. اجابني محدثي قائلاً: كلا فان المسير يهاجر الى صورة للرفيق لينين وضعت عند نهايات شارع المدينة. هنا تحسس العم سعيد بان المسير يهاجر حقا لصد هجوم دفاعا عن هموم مزارعينا وان الجميع اخذ يردد قائلاً: الخير لا ينهزم والشر لا ينتصر ولكن سنبقى نشهد من الزمان لحظات عابرة دفاعاً عن المحبة والسلام!

لقد لخص قائد المسير (المولع بكتاب لينين : ما العمل ..) خطابه، قائلاً ان لينين شهيد،  وان المجرمين لن يترددوا من انتحال الاعذار لاشباع رغباتهم الآثمة في البطش وسفك الدماء لجر الناس الى الهوان وتمزيق الاوطان.

وهكذا عبرت جموع مزارعي مدينتنا الفراتية الصغيرة قبل ستين عاما ونيف وبايمان عفوي قوي وراسخ بأن في (مناجلهم )حيزاً من الانجذاب نحو ( مطارق) عمال مصنع (ميكلسون ) وان تجاذبات مزارعي اطراف مدينتنا الفراتية نحو عمال العالم كانجذاب الفراشة الى وكر النحل، وبحرية دون ان ترفس باغلال الماضي وهم يغردون باهازيجهم الحزينة لاشاعة الطمأنينة والسلام بينهم. ولكن هل ظل كتاب لينين يردد عنوانه بيننا ...حتى الساعة .. مالعمل؟ لا أدري.

ــــــــــــــــــــــــ

“الحوار المتمدن”

17/1/2021

عرض مقالات: