اخر الاخبار

قبل يومين مرت الذكرى التاسعة والثلاثون لمعركة سينا التي جرت يوم ١٩ كانون الثاني من العام ١٩٨٢ في قرية سينا الملاصقة لقرية شيخ خدر تقع مع حافة سهل القادرية جهة جبل دهوك. وهي قرية يزيدية يتراوح نفوسها على ما يزيد من 2000 نسمة، وتعد من القرى الكبيرة نسبيا في ذلك السهل الجميل من سهول الموصل، يفصلها عن قرية شيخ خدر أخدود أشبه بالوادي وهو جاف وأغلب الظن هو من صنع السيول النازلة من جبل دهوك يوما ما.

في ذلك الأخدود الفاصل بين القريتين شيدت مدرسة من جدار حجري وبناية ذات سقف كونكريتي!! فكانت تحسب مدرسة عصرية ومتطورة.

كما أن سينا تبعد عن ناحية فايدة بحدود ربع الساعة أو ما يعادل 10 كليو مترات، إذا سافرنا بسيارة مستخدمين الطريق الترابي قاطعين سهل القائدية بشكل مائل.

كانت تربطنا أواصر الود والاحترام المتبادل بشكل ملفت للنظر بالمواطنين من سكان هذه القرى، وكانوا يتمتعون بأحاديثنا ولقاءاتنا وخصوصا أن أغلب رفاقنا الأنصار أقاموا علاقات حميمة مع سكان سينا وشيخ خدر.

في بداية عام ١٩٨٢بدأت السرية الرابعة أو كما كنا نسميها السرية المستقلة نسبةً لارتباطها بقيادة القاطع مباشرة وعدم خضوعها تنظيميا لفوج معين كما جرت العادة آنذاك، بدأت نشاطها وتجوالها بتلك المنطقة الواسعة والمكشوفة وكان لأسلوب آمر السرية أبو نصير (لازار ميخو استشهد في منتصف التسعينات بدهوك) وقع كبير في نفوس أهالي المنطقة، وتركت صدىً جيداً لحجم و تواجد الأنصار الشيوعيين آنذاك، حيث كان الرفيق ابو نصير يستفز وجود النظام ورموزه بحركة جريئة للمفرزة وفعلا تم زيارة قرى المنطقة لأول مرة منذ بداية 1979وكان الغرض من تلك الحركات هي لاستدراج قوات النظام والإيقاع بها.

ففي ليلة ١٨-١٩كانون الثاني جئنا إلى قرية سينا والتقينا بمفارز أخرى من قوات الأنصار وعدد آخر من كوادر التنظيم المحلي وتكونت قوة تقدر بأكثر من خمسين نصيراً وأربع نصيرات وهن (الرفيقة ام عصام، الرفيقة دروك، والرفيقة أم أمجد، والرفيقة عشتار) حيث التقت الرفيقات مع معلمات المدرسة في القرية وكن على ما أذكر ست معلمات وجرت أحاديث طويلة معهن، في تلك الليلة اختار الأنصار المدرسة للمبيت! وكان الشهيد حكمت آمر الحضيرة المتميز بالحذر هو المسؤول عن تنظيم الحراسات حيث جرد كل الموجودين ونسق مع باقي المفارز لوضع حارسين لكل ساعة وهذا ما أنقذ الموقف فيما بعد وتجنبت هذه القوة الكبيرة خطر الابادة الكاملة كما ستأتي الاحداث.

في ليلتها كنا نتجاذب أطراف الحديث وكان الشهيد عايد (هيثم ناصر الصكر) حاضرا كعادته بالحديث عن مغامراته البحرية الشيقة، فعند تركه للعراق منتصف السبعينات، اشتغل على متن باخرة يونانية مخصصة لنقل النفط على ما أذكر، لكنه واقصد الشهيد عايد لم يكمل لنا بقية الأحاديث والمغامرات، فعندما تصل الرواية إلى الذروة الدرامية، كان يتندر بها بان التكملة بالحلقة القادمة.

أعود مرة اخرى لتلك الليلة الباردة، فقد تمكنت قوة من الجيش والاستخبارات العسكرية وبالتعاون مع الجواسيس والعيون في المنطقة من ضرب طوق على القرية ليلا وتم احتلال الجبل المشرف على القرية بالإضافة إلى عدد كبير من الكمائن ليحكموا الحصار على كل القرية.

 وفي وقت الفجر بحدود الساعة الخامسة أو بعدها بقليل تسللت مجموعة يقودها نقيب استدلت على وجود الأنصار بالمدرسة عن طريق ابن المختار وكان هدف مجيئهم إلى المدرسة لوضع كمين مقابل باب المدرسة لكنهم اصطدموا مع الحرس وهو الرفيق ابو حياة الذي بادر بالرمي وتشتيت القوة المهاجمة والحرس الثاني الرفيق ابو علي الأشقر من الجانب الآخر للمدرسة، في هذه المناوشات تأكد الجيش من وجودنا بالمدرسة فامطروا المدرسة بإطلاق نار كثيف ومستمر، فاستيقظنا على صوت أشبه بما يكون المطر وعند محاولاتنا الخروج من الباب الوحيد للمدرسة صوب القرية، سمعنا نشيج المعلمات من شدة الخوف والهلع.

خرجت لأجد الرفيق حكمت بعد أن عرف عن طريق الحرس أنهم قد طوقوا القرية ومن الجهة المشرفة من الجبل، فاطلق من القاذف (الار بي جي) صاروخاً اخترق به الكمين المخصص لإبادة اكبر عدد ممكن من الموجودين بالمدرسة، ولكنه ادى إلى كشف موقعه على أثر النار الذي يخلفها ذلك القاذف، فأمطروه بوابل شديد من النار مما ادى إلى جرحه ببطنه من الجهة اليمنى حسب شهادة الرفيق أبو رستم (استشهد فيما بعد في دشت نهلة) الذي وضع الجريح حكمت على دابة محاولا انقاذه والخروج به من القرية مع الرفيق عايد الذي بادر بإسناد الجريح حكمت ومرافقته ورابعهم كان الرفيق ابو علي النجار(استشهد فيما بعد في باعذرة) ولكنهم وقعوا بكمين آخر من جهة السهل هذه المرة، هنا سقط عايد شهيدا بالحال واشتبك الاخرون ابو علي وابو رستم حتى استطاعوا الافلات من القبضة المحكمة للكمين والاتجاه نحو قرية الصالحية بنهاية سهل القائدية وبداية جبل القوش، ومن ثم اللقاء بنا اسفل سفح جبل القوش.

أعود إلى تلك اللحظة التي بادر الشهيد حكمت بالرمي واشتبك مع الجيش بها، كنت قد توجهت إلى الجهة الاخرى من المدرسة بمحاولة الاستطلاع ومعرفة حدود الكمائن والافلات منها ولكن كان من المستحيل التوجه إلى الجبل لكثافة وجود القوة المهاجمة. فتوجهت نحو القرية من أمام المدرسة تماما ، فظهر لي الرفيقان ابو فواد(استشهد بالضربة الكيمياوية في مقر زيوة 1987) والرفيق ابو داود (غيّب بالأنفال السيئة الصيت) وكان الاثنان مكلفين بالتنظيم المحلي، وبتلك الليلة لم يناما معنا بالمدرسة، فتفاجأت بهما ينادياني من أحد بيوت رفاق التنظيم المحلي، وأخبراني على الفور أن لا طريق للانسحاب غير السهل وعن طريق الأخدود الجاف بين القريتين والذي لا يتجاوز بعمقه المتر الواحد، فوقفت للقاء الرفاق الخارجين من المدرسة وأخبرهم بالطريق الوحيد وكان الرفيقان صباح كنجي وخليل إلى جانبي وجاء فيما بعد الرفيق أبو نصير وبقية الرفاق.

كما هو ملاحظ فقدنا السيطرة وبدأنا البحث عن طريق آمن فقط للانسحاب وهذا سبب الهجمة المباغتة التي وجهت لنا وحداثة تجربتنا بالكفاح المسلح وتسلل حالة الخدر والاطمئنان للعدو الغادر، تمادينا كثيرا بالحركة الاستفزازية دون التوقع لردود الفعل من قبل النظام ورموزه.

سألني الرفيق ابو لينا (ولد السالك) بعد سنوات حيث التقينا بمهرجان اللومانتيه بباريس، كيف عرفت ذلك الاخدود كخط أمين للانسحاب، طبعا لم أخبره بحقيقة الخبر وتظاهرت له بالمعرفة العسكرية الفذة...!!

 ولكني اخبرته فيما بعد بحقيقة وجود رفاق حريصين من أمثال أبو فواد وأبو داود لهم المجد الدائم، هو الذي ساعدني بالاستدلال لذلك الطريق.

انسحبنا إلى سفح جبل القوش في ذلك الصباح الكالح، والتقينا ببعض الرفاق ممن تمكن من الانسحاب ورجعنا إلى القرية باليوم ذاته عصرا لنجد آثار الطوق المؤسف.

 ولكني تفاجأت بأن أهل القرية كلهم يجمعون على أن جثث الشهداء قد دفنت بمقبرة شاخكة بدهوك. فكيف عرفوا مثل هذا الخبر! وبهذه بالسرعة، اعتقد مراجعة متأنية للخبر سنجده ملفقا من قبل رموز السلطة آنذاك. واتوقع انهم انتقموا من الجثث بطريقة حزب البعث.

ففقدنا شهيدين وفقدنا قبريهما ولم نجد لهما اثراً إلى يومنا هذا، أهدي لهم مقطع من انشودة الشهيد:

كم شهيد لنا فقيد  لم نكلله بالزهور

ضائعا قبره المجيد  ضائعة كم لنا قبور   

تتنزى دما ونور

المجد للشهيد رافد اسحق حنونة (حكمت) طالب كلية الهندسة - بغداد المرحلة الثانية الذي ترك الدراسة ملتحقا بدرب كان الاصعب.

وللشهيد هيثم ناصر الصكر (عايد) الذي لم يكمل حكاياته وفارقنا.

ذكر الفقيد ابو جوزيف بكلمته القصيرة اثناء تأبينه لشهداء هذه المعركة بان بطولة الشهيد عايد لا تنسى لأنه لم يفارق الجريح وأبت رجولته التفريط به، فيا لها من بطولة.

السلام لروح الشهيدين (عايد وحكمت) والمجد لكل الشهداء

عرض مقالات: