منذ عقود، تشهد السياسات الاقتصادية في العالم تحوّلا نحو تقليص دور الدولة في الإنتاج والخدمات، عبر ما يعرف بالخصخصة. وفي العراق، بدأت ملامح هذه السياسة بالظهور بشكل أوضح بعد عام 2003، عندما فتحت أبواب الاقتصاد على مصراعيها أمام القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، تحت عنوان "إصلاح الاقتصاد الوطني" و"تخفيف العبء عن الدولة". لكن هذه التحولات، التي اتخذت طابعا فجائيا وغير مدروس، انعكست سلبا على الطبقة العاملة، لتجد نفسها في مواجهة مستقبل غامض، عنوانه البطالة والهشاشة وتفكك الحقوق.
الخصخصة في ميزان الواقع العالمي
تعني الخصخصة، ببساطة، تحويل ملكية أو إدارة المشاريع والخدمات من الدولة إلى القطاع الخاص. وقد ظهرت بقوة في الثمانينيات ضمن سياسات الليبرالية الجديدة، خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة. ورغم الوعود بتحقيق النمو وتحسين الكفاءة، إلا أن النتائج في الكثير من البلدان كانت محبطة، وخصوصا من منظور العدالة الاجتماعية.
في هذا السياق، تقدم النظرية الماركسية فهما نقديا للخصخصة، إذ تراها امتدادا لتوسّع رأس المال وسعيه الدائم لامتلاك وسائل الإنتاج وإخضاع العمل لأقصى درجات الاستغلال. وبحسب هذا المنظور، فإن نقل القطاع العام إلى ملكية خاصة لا يمثل فقط تغييرا إداريا، بل هو خطوة لزيادة أرباح رأس المال على حساب حقوق العمال، من خلال تقليص الأجور، وتسريح الأيدي العاملة، وتفكيك أشكال التنظيم النقابي.
التجربة العراقية: خصخصة مقنّعة وفوضى سوق
في العراق، لم تأت الخصخصة عبر قرارات صريحة وواضحة، بل تسرّبت من خلال عقود شراكة واستثمار خارجي وإحالة قطاعات خدمية إلى شركات أهلية. قطاع الكهرباء مثال صارخ على ذلك، حيث جرى تسليم ملف التوزيع والجباية إلى شركات خاصة، تحت ذريعة تحسين الخدمة، لكن الواقع أثبت خلاف ذلك. إذ ارتفعت الأسعار، ولم تتحسن الخدمة، وفصل عدد كبير من العاملين المؤقتين، من دون تعويض عادل أو بدائل واضحة.
كما جرى إهمال وتفكيك شركات القطاع الصناعي تدريجيا، إما عبر وقف التمويل عنها أو الترويج لفكرة "عدم الجدوى الاقتصادية" لها. وبدلا من تطويرها، تركت هذه الشركات لتتآكل، في حين بات الآلاف من العاملين فيها يتقاضون رواتب اسمية بأجور متدنية من دون عمل حقيقي أو دور إنتاجي.
ما الذي خسره العمال؟
أمام هذه السياسات، كان العامل هو الحلقة الأضعف. فقد تراجعت فرص العمل الدائم، وازدادت أنماط التشغيل المؤقت، وظهرت شركات تعمل خارج أي رقابة، وتفرض شروطا قاسية على العاملين فيها، كعدم دفع الضمانات الاجتماعية أو مخالفة الحد الأدنى للأجور. كما باتت الحوادث المهنية نتيجة شائعة لغياب إجراءات السلامة، وافتقار العمال لأبسط الحقوق القانونية.
العديد من الشركات الخاصة لا تسمح للنقابات بالعمل داخل منشآتها، مما يعني غياب أي صوت يمثل العمال. وهو ما تحذّر منه النظرية الماركسية، التي ترى أن إضعاف التنظيمات العمالية يصب في مصلحة رأس المال، لأنه يضمن له الاستغلال بأقل مقاومة.
هل الخصخصة قدر لا مفر منه؟
يرى المدافعون عن الخصخصة في العراق أنها ضرورة لإنهاء الفساد وتحسين الأداء. لكن الفساد لم ينته، بل أعيد إنتاجه بأشكال جديدة داخل القطاع الخاص، في ظل غياب الرقابة واحتكار الخدمات. كما أن وعود تحسين الأداء لم تتحقق فعليا، لا في الصحة، ولا في الكهرباء، ولا في التعليم.
إن التحول نحو الخصخصة لا ينبغي أن يكون قطيعة مع دور الدولة، بل جزءا من نقاش وطني حقيقي حول النموذج الاقتصادي الأمثل. فالدولة العراقية لا تزال مسؤولة عن خلق فرص العمل، وضمان العدالة الاجتماعية، وتوفير الخدمات الأساسية بعيدا عن منطق السوق الربحي.
نحو بديل اجتماعي عادل
لا يعني رفض الخصخصة التمسك الأعمى ببيروقراطية الدولة، بل السعي إلى نموذج متوازن يبقي على دور الدولة كضامن للحقوق، ويتيح مشاركة القطاع الخاص ضمن ضوابط واضحة وعدالة قانونية. المطلوب هو تنظيم العلاقة بين رأس المال والعمل بما يحمي حقوق الطرف الأضعف، أي العمال.
إن أي سياسة اقتصادية تقصي مصالح الطبقة العاملة ولا تأخذ بعين الاعتبار أوضاعها، ستكون وصفة لتفكك اجتماعي وانعدام الاستقرار. ولعلّ أخطر ما في الخصخصة العشوائية هو أنها تعزز مفهوم "السوق فوق الإنسان"، وهو ما حذّر منه ماركس مبكرا، عندما أكد أن الرأسمالية لا تهتم إلا بقيمة الربح، حتى وإن جاء على حساب كرامة العامل وحياته.
في العراق، حيث لا يزال الاقتصاد هشا والبنى الاجتماعية متصدعة، فإن الانحياز لحقوق العاملين ليس مجرد خيار أخلاقي، بل ضرورة وطنية، لضمان الحد الأدنى من الاستقرار والتنمية. فلا تنمية من دون عدالة، ولا عدالة من دون كرامة العمل.