الجزئية عن اختطافي من قبل أجهزة أمن النظام السابق التي أوردتها في ما نشرته عن إنذار طارق عزيز بإغلاق "طريق الشعب" لفتت أنظار بعض الأصدقاء والرفاق، فتمنّوا ان تُعرف تفاصيل ذلك الاختطاف، وكيف تم إطلاق سراحي، واستطرادا، ثمة مشكلتان، يجب أن أضعهما في الحساب، الأولى ما يتعلق بسياسة الحزب، الإعلامية، والوطنية، آنذاك، ولها قراءات، ووجهات نظر، يلزم أن اضعها جانباً، الآن، ولديّ فيها رأي مدوّن في اوراقي الخاصة (أنشره لاحقاً) أما الثانية فتتصل بدور الرفاق في قيادة جريدة الحزب (طريق الشعب) وقيادة الحزب، الذين تابعوا اختطافي، وتحريري، لأقول، إن واجبي، المنزه من أي اعتبار، يلزمني بإنصاف هؤلاء الرفاق، وتسجيل مواقفهم، والامتنان منهم، فيما كانوا مثلي معرضين للاختطاف.
قبل هذا، كانت التحقيقات الصحفية والنصوص الأدبية والخواطر التي تنشرها "طريق الشعب" مزدحمة بالهواجس والمخاوف والمعطيات والشكاوى وخيبة الأمل حيال مستقبل الحياة السياسية ودور الشيوعيين وما يبيّت ضدهم، وكانت كتابات ونغزات أبو كاطع وإبراهيم الحريري ويوسف الصائغ وكتاب الجريدة الآخرين تستوقف عيون المراقب الأمني للسلطة قبل الألوف من القراء، وأحسب أن من يرغب الاستدلال إلى أجواء تلك الأيام الكابوسية سيجد مادة غنية توثيقية في تلك المدونات الصحفية.
والحق، لا أعرف من أي البدايات أدخل إلى يوم اختطافي، وهي كثيرة، إذا كان المطلوب تأشير أجواء المراقبة والملاحقة في محلة سكني (الحرية-البستان) أو في مكان عملي (معلم في مدرسة الشعلة الثانية) أو في مجال مهنتي الصحفية، محرر في الصفحة الأولى لطريق الشعب، آنذاك (وأخيرا) في مجال نشاطي النقابي كممثل للمعلمين الشيوعيين، في الهيئة الإدارية لنقابة المعلمين فرع بغداد، غير أني أتذكر حادثة ذات مغزى، من بين جميع الحوادث التي كنا نتعرض لها، وأظنها تتصل مباشرة بالاختطاف، ففي منتصف آذار من عام 1978 سيّرت نقابة المعلمين وفدا كبيرا (حوالي 30 عضواً) إلى ليبيا للمشاركة في الاحتفال بذكرى الجلاء هناك، وكان احتفالا عسكريا في قاعدة طبرق، بحضور القذافي، وكنت الوحيد، من الحزب الشيوعي في الوفد، وفي نهاية مراسم الاحتفال تقرر تطييب خواطر المشاركين، ومجازاتهم، قبل العودة إلى بغداد، فاختيرت "روما" محطة استراحة لمدة ثلاثة ايام، وقد لاحظتُ طوال السفرة أن عضو الوفد، البعثي المتقدم ماجد الحمداني (وكان مديرا معاونا لمديرية تربية الكرخ) يسايرني كظلي، ولا يتركني، حيثما أكون، وبخاصة حين أنفرد بالحديث مع الليبيين، ، ولم تكن مجاملاته لي محض لياقة تمليها رفقة سفر، فكلما سنحت الفرصة يفاجئني بأسئلة عن حياتي وشؤوني، ثم عن رأيي بـ"الثورة" وحكم البعث، ولم يكن ذلك ليريحني، كما لم أغفل أن في الأمر رائحة أمنية موصولة بالتضييق على الشيوعيين كان قد تصاعد، وصار منهجاً، منذ أكثر من عام، وفعلا، تحققت هواجسي في روما حين فاجأني بزيارة إلى غرفتي في ساعة متأخرة من الليل، وقد فوجئت بها، فشرع يشرح سبب هذه الزيارة بمقدمة بائسة، مضطربة، وعلى وجهه ابتسامة مشوبة بالصفرة، قائلا: أنت إنسان مثقف ومهني، وليس عندك بيت ولا سيارة ولا وظيفة تناسب كفاءتك. أنا أحمل لك عرضا بموقعٍ يحلم به كثيرون، والمطلوب "في غاية البساطة" أن تتخلى عن انتمائك إلى الحزب الشيوعي. إن مكانك الصحيح هو معنا، في صفوف الحزب القائد.. شنو رأيك؟ لم يشكل الأمر (الطلب) مفاجأة لي، لكن المفاجأة تمثلت لي، في تلك اللحظات المتوترة، بهذه الصفاقة، وسقوط قشة المجاملات، وافتضاح بقايا الود المغشوش معي. وللوهلة الاولى، داهمتني الرغبة في البصق بوجه محدثي المضطرب، فيما لاحظ ازدرائي، واحتقاري، لكنه مضى في سعيه، ثم قام ليقبلني، على أساس أنها مبادرة شخصية صادقة النية، متروك شأنها لي. جلس بانتظار رأيي، وكأن جهة تنتظر نتائج مهمته. آنذاك تذكرت أن يوم الغد سيكون (يا للعجب) الحادي والثلاثين من آذار، ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراق، فأسرعت إلى البراد لجلب كأسين قدمت له أحدهما، وقلت له: لنشرب نخب الذكرى 44 لتأسيس حزبنا.. وهكذا نقلت الذهول والمفاجأة والصفعة إليه، وأتخيل أنه بلعها بارتباك، ولم يتناول الكأس من يدي، ولم يعتذر، وربما كان يفكر في عبارات التقرير الأمني الذي يرفعه إلى من كلفه. التقرير الذي سيعجل بما جرى لي. أضيف هنا، أن المراقبات حول سكني ومحاولات تتبعي في تنقلاتي ازدادت بمقاسات لافتة، وكنت معروفا في أحياء الحرية لنشاطي الجماهيري والحزبي منذ خروجي من السجن أواخر الستينيات، وصرت اتوقع إيذائي في أي وقت، بالترافق مع صعود الفاشية الصدامية، والأخبار المتواترة عن الحملة على منظمات الحزب، واعتقال أبرز كوادره في بغداد والمحافظات، وبخاصة الأخبار المخيفة عن اعتقالات تطال الرفيقات الناشطات وتعذيبهن وتغييبهن، والكثير أعرفهن، فوضعت نفسي في احترازات قدر الإمكان، واختصرتُ من مساحة تحركاتي، حتى الساعة السابعة من صباح ذلك اليوم في منتصف اكتوبر- تشرين الأول 1978 إذْ هاجمتني مجموعة أمنية بسيارة بيكاب يقودها رجل الأمن المعروف في المنطقة "علي العجمي" الذي راقبني طويلا كظلي. وكنت في تلك الساعة اتجه إلى دوامي في مدرسة الشعلة الثانية. شهر السلاح بوجهي فقاومته. انضم إليه ثلاثة من زمرته. عرفت للتو أني وقعت في الكمين. صرخت مستنجدا، كأني لا أعرف من هم، فكمموا فمي وحملوني إلى مقدمة السيارة، وشدوا عيني بوثاق اسود. أحنوني وغطوني بملاءة قذرة وانطلقوا بي. وكانت العملية تجري تحت مشاهدة بعض المارة ومنهم طالب مدرسة من جيران أهل زوجتي، فأسرع على دراجته ليخبرهم بما شاهد، ولا يعرف أنه بذلك أطلق الجهود المبكرة، من قيادة الجريدة والحزب لإنقاذ حياتي من براثن الجلادين القتلة، لكن بعد 16 ساعة من "التحقيق" بمختلف أدوات قهر الإنسان وإذلاله ومحاولات تدمير روحه وصموده.
أنكروا اختطافي.. التعذيب
عندما وصل الخبر عن اعتقالي إلى الجريدة تنادى، على الفور، الرفاق فخري كريم (نائب نقيب الصحفيين) وعبد الرزاق الصافي (رئيس التحرير) وعامر عبد الله (وزير الدولة) وحميد بخش (مدير الإدارة) كلّ من موقعه، بالاتصال بالمراجع الرسمية والأمنية، ونقابة الصحفيين، ومديرية الأمن، وكان المسؤولون، في بادئ الامر، ينكرون وجود حالة اعتقال الصحفي عبد المنعم الأعسم، ونقل لي الرفيق عامر عبد الله أن مدير الأمن العام، فاضل البراك، قال له " بشرفي لم نعتقل صحفيا بهذا الاسم" فيما أبلغ الرفيق فخري رئيس نقابة الصحفيين "سعد قاسم حمودي" أن الجريدة قد لا تصدر في ظل هذا الوضع، ومن جانبي، فقد أيقنت أنهم أوصلوني إلى قبو "تحقيق" في أمن الكاظمية، بالنظر للمسافة القصيرة التي قطعتها السيارة من نقطة اختطافي مقابل "سيف عبدالهادي الجلبي" وبدأوا منذ الساعات الأولى حفلات التحقيق بالوسائل الأقصى قسوة وقهرا، ربط الأيدي من الخلف. إزاحة الملابس. الدوس بالبساطيل على الرأس والرقبة، وقطع الأنفاس. كل ذلك ضمن خطة يطبقونها مع جميع ضحايا الاعتقالات، فهم (في أول الأمر) لا يطلبون من المعتقل معلومات، بل يباغتونه، وبأبشع وسائل التعذيب، والتهديد بالشرف والتنكيل بعائلته، ثم الإغواء، والضغوط النفسية، طالبين أمرا واحدا: "اعترف بكل شيء وإلا لن تخرج حياً" بأمل أن يوفر ذلك لهم الوقت، وتقليل حالات الإجهاز على حياة المختطف قدر الإمكان، وفي حال لم ينجحوا يجري الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تبدأ بطلب معلومات محددة مع استخدام وسائل قهر روحية وجسدية إضافية لكسر شوكة الصمود، منها استخدام التهديد بالتنكيل بزوجته او ابنته، أو افراد عائلته، مع استخدام وسائل تأثير صوتية مرعبة. أما المرحلة الثالثة، فهي على هيئة تدابير محددة، من اختصاص أصحاب القرار الأمني، قد تتضمن الإجهاز على حياة المختطف، وهنا قدم الكثير من الرفيقات والرفاق الأبطال حياتهم في هذه المرحلة، وكان من بينهم شريكاي على طاولة العمل بالجريدة، وأروع أصدقائي، الشهيدان البطلان إسماعيل خليل وسامي العتابي، وفي هذا الفصل من التحقيق المتوحش معي كنت أحاول ترويض الآلام المبرحة والجروح ونزف الدم والصفعات بالبساطيل على الوجه، والرفس الهستيري، من جلادين صبيان مخمورين. أقول ترويض الآلام عن طريق التعلق بأمل، يضعف، ويبتعد، ثم يجتاحني، بأن أكسب الحياة. لم أكن بطلا. لكن ربما كنت عنيداً. كنت أتشوق إلى طفلي وعائلتي. أفقد التحمّل. فأصرخ مناديا باسمه. بابا حارث. لقد اكتشفت أن الصراخ، وأنا تحت التعذيب، يساعد على التحمل. ويؤخر موتك بين أيدي الجلادين. غبتُ عن الوعي. أيقظوني برشاش ماء بارد على وجهي، ثم أصحو على هول آلام لا تحتمل. أمنّي النفس أن أنجو. كيف؟ لا أريد أن أموت، وفي لحظات، حين أفقد الأمل، أقرر التعايش مع الوحشية والتعذيب لأطول فترة، والتصبر الأقصى على ما أواجهه من عربدة العصي والدوس على رقبتي وسيل الشتائم والبذاءات. حقا لم أكن لأعرف، في تلك اللحظات، إلى أي مدى سأتحمل. فيما يبدو أن جلادي المرحلة الثانية يستعدون لمهمتهم. وأنا مغمض العينين ومرمي على الأرض سمعتهم يتجادلون. كان الوقت مساء كما قدرت. ثم بدأوا، وهذه المرة بطلب معلومات حزبية، بدت لي مشوشة لديهم، ولا سياق لها بالتطابق مع معلومات أعرفها.. وحين قلت "لا أعرف. لا علاقة لي" هجموا عليّ مرة واحدة مثل ذئاب منفلتة. علقوني من رجلي. اترنح. أقترب من غيبوبة تخف معها آلام التعذيب. تلك، كما اعتقد، أسعد لحظات الضحية الذي تسكنه قضية ثمينة، وعزيزة عليه، ولا يريد أن يسلمها للجلاد: أن يموت.. للحظات تمنيت ذلك.
ضوء في القبو
لا أعرف كم مضى من الوقت. استيقظت. أو أيقظوني، فتح شخص القبو وسمعته يسألني بلهجة رسمية، لم أكن قد تعودتها طوال ساعات اختطافي: ممكن تنطيني اسمك الكامل ولقبك وعملك. وعندما قلت له أعمل معلما، قال "وبعد؟" قلت: محررا في جريدة "طريق الشعب" ثم خرج. تُركت إلى ما يشبه الانتظار الذي أضاء في روحي نورا بعيدا من الأمل، في الأقل لكسب وقت إضافي للتحمل، وكلما تأخروا عن العودة إلى التحقيق أطمن نفسي بأني أكسب وقتا، او حياة، ثم أتمادى فأحلم بالنجاة من براثن القتلة وأعود إلى طفلي وعائلتي. دخل شخصان، عملا على فك وثاقي، لكن أبقيا رباط العيون، وبقيا جالسين صامتين، وبعد ساعة، او هكذا حسبت، جاءوا لي بـ "لفة" كباب. حاولت ان ادس قطعة في فمي. طلبت ماء فجاءوني به بسرعة. قلت احتاج إلى تواليت. أخذني أحدهما إلى "تنكة" وفك وثاق عيوني بحدود الحاجة. إذن كسبت الوقت، شجعني على ذلك لهجة الشخص الأخير وطريقة أسئلته، وفجأة حدثت حركة وكأن الجلادين انسحبا من القبو. أمر جيد في حساب الحياة ومفاجآتها، وبعد وقت لا أقدّر وحداته، جاءوا. رفعوا الرباط من عيني وآتوني بحذائي الذي لم أستطع ارتدائه لتقيح قدمي وتورمهما. حملته. قادوني إلى سلّم، حسبته بعلو طابقين، وأدخلتُ إلى صالة يجلس في زاويتها شخص مدني، شاب، لا أعرف هل هو يبتسم، ام يحاول ان يبتسم. عملت تركيزا في إيحاءات ملامحه كي استشف ما يبيّت لي. بادرني باللوم البارد: عبد المنعم، لماذا لم تذكر للأخوان أنك من الحزب الشيوعي "العفو، صار غلط.. هسه راح تطلع وترجع لأهلك". كنت صامتا. مُعلقا بين الشك في نيات هذه الاستدارة، وبين اليقين أن الرفاق وُفقوا في انقاذ حياتي، ثم نهضت. لم أستطع. عصبوا عيوني مرة اخرى. حملني اثنان من أكتافي إلى سيارة، وبعد أقل من ساعة دفعوا بي إلى خارج السيارة. كانت سكة قطار. قطار الموصل، وذلك على مسافة من المكان الذي اختطفت فيه. كانت الساعة حوالي الثانية عشر ليلا. (تفاصيل أخرى في أوراقي)
قضيت أياما في العلاج، وبعد أسبوع، وبالتحديد في اليوم الأول، أو الثاني من نوفمبر تشرين الثاني، جئت، لأول مرة بعد اختطافي إلى الجريدة. كنت شبه حافيا بخفّ بلاستك لتعذر لبس حذائي. يومذاك كانت مناسبة انعقاد مؤتمر القمة العربية حول تداعيات اتفاقية كامب ديفيد، ووفود سياسية عربية تعمل على التعبئة ضد الاتفاقية، حيث يحضرها صحفيون عرب وأجانب كثيرون. وإلى حيث قاعة الجريدة التي كنت ممددا ومحاطا برفاقي العاملين قدم الرفيق فخري كريم ومعه أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي. قال له أبو نبيل: "شوف رفيق جورج هذا نموذج من أعمال التنكيل اللي نتعرض لها" لم يعلق الرفيق حاوي. ثم دعت إدارة الجريدة صحفيين عرب كانوا يغطون وقائع القمة إلى لقاء أتحدث لهم فيه عن اعتقالي وما تعرضت له، وذلك بحضور الرفاق العاملين في الجريدة، فأطلعتهم على الآثار والأورام ووسائل التعذيب والتحقيق، وأجبت عن أسئلتهم التي تركزت على نوع التحقيق الذي جرى معي، وما هي المخالفات التي أوجبت هذا الاعتقال، وهذه القسوة. وأشادوا بتحملي، وختمت الكلام بالقول: "معذرة، لم أكن بطلا. رفاقي الشهداء الذين فقدوا حياتهم هم الأبطال" وبعد المؤتمر الصحفي، وفي خطوة مهمة لفضح التصعيد المنظم ضد حزبنا، حملني الرفيق أبو مخلص إلى اجتماع كان ينعقد للجنة العليا للجبهة الوطنية، وذلك بالتنسيق مع الرفيق عامر عبد الله الذي يحضر ذلك الاجتماع ممثلا للحزب، وهناك أدخلوني في صالة ملحقة بقاعة الاجتماع، وعلمت ان الرفيق أبوعبد الله فاجأ المجتمعين بحديث عما يتعرض له الشيوعيون في الآونة الاخيرة، وأن قيادة السلطة ومسؤوليها الأمنيين ينفون ذلك، وطلب إلى الحاضرين الخروج إلى الصالة ليشاهدوا نموذجا حيا لما يجري، وبعد حوالي نصف ساعة خرج نحوي، من صالة الاجتماع، اثنان من الأعضاء هما المحامي مظهر العزاوي والسياسي الكردي بابكر محمود البشدري، ولم يحدثاني، حيث اكتفيا بالنظر إلى بعض اثار التعذيب، وعادا أدراجهما إلى قاعة الاجتماع .
الإفلات بسيارة "وزير الدولة"
فيما كنا، الرفيق عبد الرزاق وأنا، نتهيأ لمغادرة مقر الجبهة خرج الرفيق عامر من الاجتماع ليهمس لنا القول متوقعا أن يعيدوا اعتقالي اليوم، ردّا على اللقاء بالصحفيين العرب ومراجعتي اجتماع الجبهة، وربما، قال أبو عبد الله، أعتقل الآن بعد خروجي، وطلب أن أغادر وحدي، لا بسيارة الجريدة، بل بسيارته الخاصة (سيارة وزير دولة) وأن أذهب إلى مكان آمن غير منزلي في حي الحرية، وأن لا اتواجد في الأماكن العامة. وهذا ما كان، هربتْ زوجتي بطفلي من البيت. واختفيتُ في المشتل، في دار أخي عبد الرزاق، طاب ثراه، وفي نفس الليلة، وكما توقع الرفيق أبو عبد الله، داهموا سكني في الحرية، وابلغتهم شقيقتي أني أعالج في المستشفى (احتفظ بخواطر تلك الايام) وطوال أسبوعين كنت أتابع إجراءات خروجي من بغداد، والعراق، حيث يلزمني الوفاء أن أعيد إلى ذاكرة الكتابة ما قدمه لي الرفيق طيب الذكر حميد بخش من تعاطف ومتابعة يومية لتأمين نجاتي سالما. شعرت أن أبو زكي كان أكثر الجميع خوفا عليّ من أن أقع مرة أخرى بين أيديهم. كان شهما، بحيث يجعل لقيم الشراكة النضالية معنى فياضا، هذا إلى جانب فروسية كل من ساهم بإنقاذ حياتي، ووضع لمسة اعتزاز على تلك الصفحة.