في (الآيديولوجيا الألمانية) وجدنا ان ماركس وانجلز قد كتبا: «ان الشيوعية ليست بنظرنا حالة يجب أن تنشأ، وهي ليست مثالا أعلى يجب على الواقع أن يتكيف معه. نحن نسمي الشيوعية، الحركة الحقيقية، الفعلية، التي تلغي الحالة الراهنة للأشياء. وإن شروط هذه الحركة تخلقها المقدمة القائمة الآن». فما القصد من ذلك؟
للوهلة الأولى، تبدو هذه الجمل تشديدا من قبلهما على تفاقم خلافهما مع التفلسف الذي لا ينتهي للهيغليين الشباب (وكذلك مع المخططات الطوباوية للاشتراكيين الحقيقيين). لكن يبدو أن شيئا آخر هنا. لقد رأيناهما للتو يعرّفان الشيوعية على أنها مجتمع يحررنا من تقسيم العمل. فهل هذا هو النموذج المثالي؟ أم أنهما يقصدان أن أي إجراء يتخذه العمال - أي «حركة حقيقية» - هو «الشيوعية»؟
لقد رأينا عند كتابته عن إضراب العمال في سيليزيا عام 1844 ان ماركس قد استنتج ما يلي: «مهما كان الإضراب العمالي محدودا (من حيث رقعة مساحته)، فإنه يحتوي في ذاته على روح عالمية». وفي هذا القول نوع من المبالغة الخطيرة لمقدار الوعي الذي ينشأ من معظم النضالات في ظل الرأسمالية. إذن، هل يمكننا ببساطة أن ننسب هذه المبالغة الى محدودية التجربة الشخصية لماركس وإنجلز، آنذاك، في نضالات الطبقة العاملة الفعلية؟
أعتقد أنه من المغري الإجابة على السؤال بهذه الطريقة، والقول ببساطة إنهما سيكتسبان قريبا خبرة نضالية أكبر خلال ثورة 1848. ولكن، هناك نقطة أعمق تستحق الدراسة.
ان ماركس وانجلز يحذران هنا من خطر تحويل أكثر وجهات النظر ثورية إلى إيمان ثابت ربما لا يتوافق مع «الحالة الراهنة للأشياء». فاذا لم نتمكن من جعل الفكرة، بغض النظر عن مدى جودتها، مرتبطة بـ «المقدمة القائمة الآن» - أي الظروف الاجتماعية الحقيقية - فأننا نفصل الأفكار (حتى الأفكار الصالحة) عن القوى الاجتماعية (حتى لو كانت محتملة فقط) القادرة على تحقيقها. وهذا تحذير أو نصيحة تستحق ان نتذكرها دائما.
من الواضح أن ماركس وإنجلز يتوقعان، بالتأكيد، قيام العمال، قريبا، بخلق هذه الحركة الحقيقية للنضال من أجل الشيوعية. ولكن لماذا يعتقدان أن العمال سيفعلون ذلك؟ يقدم ماركس وإنجلز نوعين من الإجابات. الإجابة الأولى هي إجابة إنسانية، تؤكد على الرفض الأخلاقي للظلم وعدم المساواة من قبل العمال الذين «تُفرض عليهم ظروف حياتهم».
الإجابة الثانية كانت سوسيولوجية وبنيوية: «ان البروليتاريين في الوقت الحاضر، المنعزلين تماما عن كل نشاط ذاتي، هم وحدهم فقط، القادرون على تحقيق نشاط ذاتي خاص بهم، كامل، وغير مقيد، يتمثل في الاستيلاء على مجموع القوى المنتجة وفي تطوير مجموع القدرات التي ينطوي عليها هذا. ان جميع حالات الاستيلاء الثورية السابقة كانت مقيدة ومحدودة ... لا يمكن للأفراد التحكم في المعاشرة الكلية العصرية، ما لم يتم التحكم فيها من قبل الجميع ... لا يمكن تحقيق هذا الاستيلاء إلا من خلال الاتحاد».
وبالتالي، سيدرك العمال أن لا مخرج لهم، وبأنهم لا يستطيعون الهروب من ظروفهم كأفراد - مع استثناءات نادرة. وسيدركون انهم في حالة اغتراب جذري في مواجهة «مجمل القوى المنتجة»، مما يدفعهم إلى حل المشكلة من خلال العمل الجماعي «الذي يتم تحقيقه من خلال الاتحاد». هذا هو جوهر توقع ماركس وإنجلز لنمو وعي الطبقة العاملة إلى وعي مناهض للرأسمالية.
الأفكار الحاكمة
من نافل القول إن أرباب العمل لن يجلسوا مكتوفي الأيدي أثناء حدوث ذلك. كما يشير ماركس وإنجلز:
«إن أفكار الطبقة الحاكمة في كل حقبة هي الأفكار الحاكمة: أي أن الطبقة التي هي القوة المادية الحاكمة للمجتمع هي، في الوقت نفسه، القوة الفكرية الحاكمة ... ان الأفكار الحاكمة ليست أكثر من تعبير مثالي عن العلاقات المادية المهيمنة».
مثال واضح عن هذه الحالة هو هيمنة الأعلام الرأسمالي وقدرته على زرع الكثير من الأفكار التي تعبر فعلا عن «العلاقات المادية المهيمنة» (الفردانية، الاعتماد على الذات، الاعتماد على الأهل، من جد وجد، إلخ). لنعترف ان الرأسماليين أذكياء، فالبطالة والمنافسة، مثلا، لا علاقة لها بالنظام الرأسمالي، وليست هي سمة من سماته، وفقا لما يطرحونه، بل بسبب أن هناك عددا محدودا من الوظائف ذات الأجور الجيدة، التي يجبَر العمال على التنافس عليها بفعل تواجد العمالة الأجنبية في هذا البلد، أو بسبب هجرة العمالة الى ذلك البلد، أي تغذية الأفكار العنصرية بين الطبقة العاملة ذاتها.
هذا هو السبب في التزام السياسيين الليبراليين ووسائل الإعلام بإصلاح “شامل” للهجرة - أي السيطرة على العمالة المهاجرة ومراقبتها. انهم يقبلون «العلاقات المادية المهيمنة» الأساسية ويضبطون أفكارهم لتلائم الحدود التي يضعها رأس المال.
كيف يتوافق هذا مع ما قاله ماركس وإنجلز، سابقا، عن بنية الرأسمالية ذاتها التي تدفع العمال إلى رؤية بنيتها المقموعة؟ هنا، يشيران إلى النقطة المعاكسة - أي أن بنية الرأسمالية ذاتها توفر إطارا لقبول الأفكار الحاكمة.
إذن ما الذي حدث لـ «الحياة تحدد الوعي»؟ لنتذكر الأطروحات عن فيورباخ - حتى المعلم يجب أن يكون متعلما. لا يمكن أن يحدث هذا إلا في سياق النضال الثوري - الممارسة، كما يشرح ماركس وإنجلز:
«من أجل ولادة جماهيرية لهذا الوعي الشيوعي، ومن أجل نجاح القضية نفسها، لابد من تغيير الناس على نطاق واسع، وهو تغيير لا يمكن أن يحدث إلا في حركة عملية، ثورة؛ هذه الثورة ضرورية، ليس فقط لأنه يستحيل الإطاحة بالطبقة الحاكمة بأي طريقة أخرى، بل أيضا لأن الطبقة التي أطاحت بها لا يمكنها إلا في الثورة أن تنجح في تخليص نفسها من كل الخساسة القديمة وتصبح مؤهلة لتأسيس المجتمع من جديد».
هنا يتضح جوهر نظريتهما عن الثورة الشيوعية. إنها خطوة رقص معقدة لابد من إتقانها. فالرأسمالية تتمتع بقوة خيالية على جميع الجبهات. وأي فكرة لأخذها على حين غرة، أو مواجهتها بمجموعة صغيرة من أجل السلطة، هو محض خيال. فقط «الغالبية العظمى من الناس»، شغيلة اليد والفكر، لديها القدرة الاجتماعية المحتملة لتحديها، لا لكثرة أعدادنا فقط، بل لأننا مصدر كل الأرباح الرأسمالية.