من عرف وتعرف على الشيوعية ومبادئها وفلسفتها ونهجها فهو أمر يعد نصف الحقيقة والنصف الآخر كان مكنوناً في ثنايا وخصال وسلوك وتفكير وطموحات كل شيوعية وشيوعي ومنهم الراحل الصادق الأمين مع نفسه ومع حزبه وشعبه.. إنه الراحل إبراهيم الحريري.
حمل الراحل الكبير إبراهيم الحريري هموم الشعبين اللبناني والعراقي وما بينهما.. الشعب اللبناني فقد ولد في احضانه من أب عراقي وأم لبنانية في مدينة بيروت عام 1937 وبقي فيها إلى ان بلغ الثالثة عشر من العمر حيث هاجر وعائلته إلى العراق عام 1950.
امتهن الصحافة وعمل في جريدة "اتحاد الشعب" نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إضافة إلى نتاجاته في الصحف اللبنانية والعراقية الأخرى.
انتمى مبكراً إلى الحزب الشيوعي متأثرا بأخواله (أحدهم كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني) ونشط من خلال الحزب الشيوعي العراقي، فطورد من قبل السلطات الملكية العراقية وكذلك من قبل الأنظمة الدكتاتورية اللاحقة وتم اعتقاله في انقلاب 8 شباط 1963 وتعرض للتعذيب الشديد على ايدي جلاوزة وقطعان الحرس القومي، علماً انه يعود بالمصاهرة مع الشهيد الخالد جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية ابّان ثورة 14 تموز الخالدة.
ويقول أديبنا الراحل: "ان أول محاولتين ناضجتين في الكتابة كانتا بين عامي 1952و1953 وبين عامي 1955و1956". اشتهر بعموده الساخر والذي كان يكتبه تحت أسماء مستعارة (زكور، أبو عمشة، حمدان.. الخ).. كتب القصة القصيرة وله روايات ذات طابع خاص في نظرته للحياة وديناميكيتها مثل الاغتيال والانقلاب.
كان الراحل منفياً إلى بدرة عام 1956 وقد أصدر مع منفيَين آخرَين هما عبد الزهرة العيفاري وعلي تايه، نشرة حائطية اسموها (الأخبار) والتي ما لبثت السلطات ان منعتها واستولت على كل اعدادها.
عام 1959 التحق بصحيفة "اتحاد الشعب" كمخلص للعرائض ومحرر في الصفحة العمالية ثم مسؤولاً عنها وعضواً في هيئة التحرير وقد ظهرت "حكايات حمدان" وكان يوقعها باسم "صديق حمدان" وهي بالواقع شخصية حقيقية اسمه "غيدان" عامل النسيج الذي كان قد تعرف عليه الراحل إبراهيم الحريري في ورشة للنسيج اليدوي. غادر العراق إلى بيروت حيث نشر الكثير من نتاجاته في مجلة الهدف وصحيفة النداء اللبنانيتين.
عاد إلى العراق عام 1974 والتحق بجريدة طريق الشعب، والتي راح ينشر فيها تحت اسم زكور وأبو عمشة وكان عموده ساخراً موجعاً جداً. غادر في أوائل 1979 مرغماً إلى منفاه الجديد واستمر بالكتابة والنشر تحت اسم زكور حتى أوائل التسعينيات عندما بدأ ينشر في صحافة الحزب وصحافة المنفى باسمه الصريح.
نشر في الصحافة الكويتية قصصا ناضجة ومنها قصة (ايه أيها البحر العظيم/ نشرت في صحيفة صوت الخليج الأسبوعية) والتي تحولت إلى فلم (بس يا بحر) ولكن باسم آخر.. والفلم تدور احداثه حول معاناة الغطاسين جامعي اللؤلؤ وعدم وجود قانون يحميهم ويؤمن الحياة لعائلاتهم إذا حدث لهم مكروه. ونشر كذلك في مجلة الطليعة الكويتية مسرحية شعرية. وتعد قصته القصيرة "الولادة" عام 1969هي التي كرسته إلى هذا النوع من الادب الهادف (على حد تعبيره).
ويقول الراحل الحريري في مقابلة صحفية: "دخلت الصحافة من باب الحزب – وأخذت من الصحافة الكثير وأخذت مني الكثير".
بعد زوال النظام عام 2003 وانطلاق طريق الشعب العلنية مرة أخرى كان يكتب الحريري عموده "من التنور". وكان عموداً مقروءاً رائعا فيه الكثير من الأرشيف العياني (إن صح التعبير) عن أحداث مرت بالحزب واستذكارا لرفاق أصبحوا ضمن قافلة الخالدين في المسيرة الشيوعية الظافرة.
التقيته مرات عدّة في بناية طريق الشعب في ابي نؤاس وفي يوم وانا اهم بإيصال مقالي الطبي إلى هيئة التحرير التقيته على درجات أحد السلالم وهو يحمل بيده شيئاً يخصني وكان فرحاً مبتسماً وقال. "دكتور كل التهاني هذه هويتك مال الجريدة ".. كانت أعظم هدية من صحفي لامع طالما أبكاني عموده "من التنور".
والتقيته مرات أخرى مبهوراً بقدرته على ركوب الدراجة الهوائية ليقول لي "هذه عندي أشرف من أرقى سيارة رئاسية في الزمن الأغبر".
كان المناضل إبراهيم الحريري مؤمناً أن للكلمة قوة التجديد والتغيير..
واختفى أبو فادي. لألتقيه عام 2017 في كندا وقد أخذت منه خطوط العمر ومظالم الحياة التي عاشها مأخذاً لتتحول كل تلك الجولات العسيرة إلى أمراض متأصلة في جسده.
امتاز الراحل الكبير بخصال الحب للحياة والناس وكل البشر، يعرض خدماته السخية أينما يكون وحيثما يحل.. عاشقاً للمساواة والعدالة، كارهاً للظلم والاستبداد.
وفي يوم من عام 2018 هاتفني: " دكتور أني نازل للعراق محتاج أي شيء؟"
مازالت كلماته ترن في اذني حينما زرناه في شقته للمرة الأخيرة قبل رحيله (رحل يوم 26 آذار 2023)، قائلاً:
" الحزب بخير فأنا بخير"
وأخر ما أقدم عليه هو تبرعه بمبلغ كبير جداً (ولعله كل مدخراته) إلى حملة بناء بيت الشعب (مقر الحزب الشيوعي العراقي) والتي انطلقت يوم 8 آذار 2023.