تنقلت عائلة تيمور من أواسط الجزر الأندونيسية الى سواحل الخليج وصعودا حتى ميناء البصرة، ومع مجرى النهر حتى حطت رحالها بين القباب الذهبية ومدينة تحتضنها البساتين.. وفيها يلتقي الناس من مختلف الأعراق.. في خليط متجانس.. أنها مدينة الطف..
وكان حسن تيمور ضريرا ومعه عائلة كبيرة، وبعد تنقله بين عدة حرف.. أفتتح قهوة صغيرة في وسط شارع البلوش متوسطا عوينات جواد فاحص النظر الوحيد في المدينة، ودكان الأجهزة المنزلية وهوالمتجر الأول في المدينة الذي باع عارضة الأفلام السينمائية المنزلية بدون صوت.. حدث ذلك في منتصف خمسينيات القرن الماضي. ولكون المقهى كانت بعيدة عن أسواق المدينة وحركة زائريها.. أقتصر روادها على الطلبة وأبناء المنطقة.. وكان من روادها من أصبح فيما بعد من أعلام البلد من مثل الرفيق الفقيد عبد الرزاق الصافي وسعدون حمادي وعبد الباقي رضا وجليل أبو الحب وآخرين، ولكن واردات المقهى الشحيحة لم تغط مصاريف العائلة الكبيرة مما أجبر أولاده على العمل في أسواق المدينة رغم صغر سنهم، وفي مقدمتهم أبنه البكر عبد الأمير.
تمكن حسن تيمور من العثور على مكان مناسب وسط سوق العلاوي المزدحم بالناس، ليفتتح فيه مقهى صغير ليكون مكان استراحة لزائري السوق، كما يقدم خدماته للكسبة والعاملين قرب المقهى. وكان أبنه عبد الأمير هو المسؤول عن المقهى، وكان ذلك في منتصف ستينيات القرن الماضي.
وفي سوق العلاوي، بدأ أموري (عبد الأمير) يعايش ضنك العيش الذي يعانيه الكادحون الراكضون وراء لقمة العيش. وبدأ يفهم ظلم الأغنياء وجشعهم، وقادته قدماه الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وأصبح وقته موزعا ما بين المدرسة والمقهى والحزب.
ولكن عائلة حسن تيمور كانت تكبر، وازدادت معها تكاليف المعيشة التي لم تصمد أمامها واردات المقهى وعمل الأبناء، وكان يحث أبنه أموري في البحث عن عمل مجدي ينقذ العائلة من حافة الفقر. وهذا أمر كان معروفا للعاملين في السوق، فتوسطوا عند أبن السوق العائد توا من الدراسة العليا في الجامعات الأمريكية عبد الباقي رضا للعثور على عمل له في بناية مصرف الرافدين الرئيسية في شارع السموأل قرب شورجة بغداد.. فكانت وظيفة عامل مصعد في البناية منقذة لأموري وعائلته. وباشر فيها فورا.
وقد تم ترحيله من منظمة الحزب في كربلاء الى بغداد. وهناك كلف حزبيا في تشكيل منظمة حزبية من العمال العاملين في المصارف. ونجح في هذه المهمة في تشكيل منظمة حزبية واسعة ومتينة.
وفي يوم تموزي ساخن.. جاء عبد الباقي رضا غاضبا الى حسن تيمور.. فابنه أموري قاد أضرابا لعمال المصرف مطالبين بتحسين ظروف العمل ورفع الأجور، وتم اعتقال أموري. وأدارة المصرف تلوم عبد الباقي رضا على اختياره.
وعاد أموري الى كربلاء بعد أطلاق سراحه وسط غضب والده الشديد. فراح يتنقل بين حرف مختلفة في أسواق المدينة ومواصلا عمله الحزبي.
في أيلول 1973، بدأت طريق الشعب في أصدارها العلني. وتم تقسيم العمل في أسرتها الى عدة أقسام. وكان من ضمنها قسم الطابعة، فعرض الرفيق عبد الرزاق الصافي على أموري مهمة العمل وبأجور في هذا القسم، نظرا لما يتطلبه العمل في هذا القسم من شخصية حزبية أمينة. ودخل أموري في دورة سريعة للتعلم على قواعد الطباعة، ليلتحق بمهمته الحزبية والوظيفية الجديدة.
وقسم الطابعة وقسم المكاتب الصحفية عرفا بمكانهما المعزول عن بقية أقسام الجريدة في بناية التحرير في شارع السعدون. ويطلق عليهما (الملحق). نصل أليه في درج صغير مقابل لقسم الأرشيف وبجوار قسم التصوير، وكنا نلتقي يوميا.. أنا في طريقي الى قسم المكاتب الصحفية وأموري الى قسمه، وهو الوحيد الذي يناديني بأسمي الصريح، ويقول مبتسما أن من يحمل أسم كأسمي لا يحتاج الى اسم حركي.
وجرى ضمه حزبيا الى المنظمة الحزبية للعاملين في الجريدة، وأصبح مسؤولا عن هيئة حزبية تضم عدد من الكتاب المعروفين. وأبدى لي عدة مرات عن أحراجه من قيادة هذه الكوكبة من المثقفين، وهو بمستواه التعليمي البسيط.
تحول قسم الطابعة الى مسكن له، يصله في الصباح الباكر قبل كل العاملين، ويغادره بعد أن يغادر آخر العاملين البناية، ومهمة الطباعة التي كلف بها لا تقتصر على عمل الجريدة، بل كان يكلف بطباعة وثائق سرية لقيادة الحزب.
وفي زحمة وحيوية العمل، بدأت الغيمة السوداء تحيط بالجريدة والعاملين فيها، وطالتهم ملاحقات واعتقالات الطغمة الحاكمة، فعرضت عليه أدارة الجريدة فكرة السفر الى بيروت ومواصلة العمل من هناك، لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا، فهو غير مستعد على ترك عائلته ومدينته وبلده، وكان جوابه لهم بأن أذهبوا أنتم، ودعوني أنتظركم هنا حتى تعودوا، فلا بد من العودة.
ولما عدنا.. عثرنا على أسمه في قوائم الشهداء الذين استشهدوا في سجون الطاغية.
مجدا لك يا رفيقي وجاري عبد الأمير تيمور..