كان قسم التصحيح في مطبعة دار الرواد في بارك السعدون من الأقسام المهمة في إتمام إصدار جريدتي طريق الشعب اليومية والفكر الجديد الأسبوعية، ففيه يتم تدقيق المقالات والأخبار قبل طبعها بالشكل الذي يصل إلى القارئ.
وكان يعمل في هذا القسم مجموعة من الأدباء والشعراء، من بينهم الشاعر عريان السيد خلف، والشاعر أبو سرحان، وكوكبة من الأدباء لا زالوا في ذاكرتي، ولكنني نسيت أسماءهم. ومعهم كان يعمل الشيوعي المخموري الباسل، الفقيد حاجي جمال، في تصحيح المقالات الكردية. وكان عملهم يتم في ظروف صعبة، من ضيق الوقت للحاق بموعد طباعة الجريدة، وتنفيذ مهمتهم في اكتشاف وتصحيح كل الأخطاء المطبعية بنجاح.
ولكون أسرة طريق الشعب والفكر الجديد أسرة جمعتها مهمة سامية في إيصال صوت الحزب في أصعب الظروف، من ملاحقة أجهزة السلطة، ومقص الرقابة الحاد لهيئة التحرير، فقد أمست العلاقة متينة بين العاملين في الأقسام المختلفة. وهكذا نمت العلاقة اليومية مع العاملين في قسم التصحيح، وطالما أعانني أبو سرحان (ذياب كزار) في إرشادي إلى العبارات التي تمر دون أن يمسّها مقص الرقيب أو غضب السلطة.
فلقد كان بارعًا في تدوير الكلمات والمعاني، رغم بساطة لغته وخجله الدائم. فهو القادم من البصرة، المتشبع بطيبتها، بعد أن رحل والده إليها من شطرة الغراف.
في أبو سرحان تكتشف الشخصية الجنوبية الطيبة، المكوية بالأحزان، والحالمة بمستقبل بعيد. فهو القائل:أمشي وأگول وصلت.. والكنطرة بعيدة
دخل أبو سرحان معتقل نكرة السلمان وهو بعمر 17 عامًا، وكان أصغر السجناء عمرًا، وهناك توفرت له فرصة اللقاء بشعراء وكتّاب تركوا أثرهم في نبوغه كشاعر، فكان منهم مظفر النواب، وزهير الدجيلي، وناظم السماوي، وآخرون. لكنه احتفظ بأسلوبه الخاص في كتابة أشعاره، فأسلوبه متميز، ورغم بساطته، كان من الصعب تقليده.
عاش قصة حب شجية مع "بسعاد"، التي كانت تعمل في بناية هيئة التحرير في شارع السعدون، ونجح في إقناعها بالزواج، وبذلك بدأ في تحقيق حلمه ببناء عائلة أساسها الحب، الذي كتب أجمل قصائده عنه.
لكن الهجمة بدأت على الشيوعيين بعد انهيار تحالفهم مع البعث، وبدأت حملة دموية لملاحقتهم وإجبارهم على ترك الحزب. وقذفت هذه الحملة بأبو سرحان بعيدًا عن عائلته الناشئة إلى بيروت، وسط الفاكهاني ووسط الحرب الأهلية المستعرة نيرانها. كنت معه في نفس المحطة، وعشت معاناته في الشوق إلى بسعاد وإلى بغداد.. ولكن كانت الكنطرة بعيدة.
وخلال الانسحاب من بيروت نحو دمشق في عام 1982، اعتقلته سيطرة تابعة لحزب الكتائب اللبناني، وقامت بتصفيته. ولم يُعثر على جثته التي رُميت في مكان مجهول.
وداعًا أبا سرحان، أيها الشيوعي الطيب، الذي عرض علينا جرحه المفتوح في قصائد خالدة.
وداعًا يا شهيد الصحافة الشيوعية..