اخر الاخبار

عامل مطبعة

هذا المقال لم ينشر باسم "أبو سعيد" وإنما نشر بتوقيع (عامل مطبعة) في جريدة "اتحاد الشعب" بتاريخ ٢٦/١/١٩٦٠ ونعيد هنا نشره ليس باعتباره نموذجاً من كتابات الشهيد "أبو سعيد" - فنموذج واحد لا يقدم تعريفاً كاملاً بأسلوب الكاتب وإنما باعتباره صفحة من مذكرات لم يجد "أبو سعيد" وقتاً وعمراً كافياً لكتابتها.

حين تزدحم الذكريات ويطلب إليك ان تقصر الحديث على بعضها، وبعضها فقط لأن البعض الآخر لم يحن وأنه بعد وأن يخصص لك حيز محدود فأمر باعث على الحرج ولكن "اتحاد الشعب" تطلب ذلك وما اعتدت أن أرد لها طلباً.

تعود بي الذكرى إلى موعد لقاء مع أحد الرفاق لا زالت أذكره حين جاءني يركب دراجة ويرتدي ملابس الفلاحين البسيطة واصطحبني معه على دراجته وراح يشق بساتين النخيل حتى توقف عند باب مصنوع من جذوع النخيل، فدفعه بهدوء ودخل كانت ثمة غرفة واحدة طويلة قديمة وواضح أن الأغنام والماعز قد أوت إليها في بعض الأيام، التفت إلى الرفيق وابتسم فنحن إذن في مقر مطبعة القاعدة.

نصبنا (النساكي) على الأرض ووزعنا الحروف وبدأنا العمل في الحال، ولكننا ما كدنا نستعد لطبع العدد الجديد من القاعدة حتى أخبرنا بضرورة الانتقال إلى مقر آخر بسرعة وكان هذه المرة واحدا من بيوت الفلاحين وهو أفضل من سابقه لولا بعده عن مصادر الورق، وتعلمت بعدها أننا لن نستقر في مكان كنا في صراع مع (العيون) و(الأرصاد) لنسرب من بينها أكداس الورق غير المطبوع لنعيده مطبوعاً.

وفي سباق مع الزمن أذكر أننا كنا نوصل الليل بالنهار لنلحق بالأحداث، ومشكلة الصوت هي الأخرى كانت تصارعنا دائماً، وأن كانت مبعثاً للطرائف في بعض الأحيان، فقد اضطررنا مرة إلى مواصلة الطبع ليل نهار ولم نحس الا وواحدة من الجيران تدخل علينا لتسأل: "شلون الولد ظل بالي يمه عليه.. هاي ليلتين أسمع حس الكاروك"، وأدركنا في الحال ان صوت البكرات اللعينة قد خاننا، وهكذا حرمنا من العمل الليلي أيضاً.

 والعقبة الكأداء التي ظلت تواجهنا دائماً هي الحجم، كانت تتملكنا الرغبة في أن نری جريدتنا أكبر حجماً فصممنا على تكبيرها وكلفتنا التجربة الأولى انكسار آلة وتوقف الطبع لأيام، ولكننا عاودنا التجربة وصنعنا نموذجاً من الخشب وأمضينا شهرين أو ثلاثة بين هذا (التورنجي) وذاك، نبرد من هنا وندق من هناك ولكن "المحروسة" أضربت عن العمل وجاءنا الفرج من الحزب وكانت هذه المطبعة الجديدة أكبر حجماً وأسرع ورأينا إكراماً لعينيها ان نسميها (الغزيلة) ولكن حتى هذه الغزيلة غدت مع الأيام لا تشبع لنا رغبة فلجانا إلى اصطناع الحيلة واستطعنا أن نطبع أحد مناشير الحزب بثلاثة أضعاف الحجم الاعتيادي وصح ما توقعناه فقد نزل نزول الصاعقة على جواسيس نوري السعيد ولكن الجماهير استقبله بفرح كبير.

ومضت الشهور وكل شيء يجري بشكل حسن آلاف المنشورات نطبع كل يوم، كنا لا نوقف الماكنة حتى ولا لفترة الأكل فقد أزداد الطلب على مطبوعاتنا وكان جيراننا الطيبون قد اطمأنوا لنا وتحول هذا مع الزمن إلى حنو وعطف حتى أنهم كانوا يصرون علينا ان يغسلوا لنا ملابسنا، لكننا فوجئنا يوماً باعتقال بعض الرفاق، فصار لزاماً ان ننقل المطبعة فشرعنا مع سكون الليل نفكك (الغزيلة) ونحزم ادواتها من دون أدني صوت وأحرقنا أكداساً من الورق الذي لم ينته طبعه بعد، ومع الفجر أنسللنا من البيت وفي قلوبنا حسرة وداع الجيران.

 وفي عام ١٩٥٤ وكانت مياه دجلة قد طغت على ما يحيط بغداد وكنا قد شرعنا في الطبع، دارت الآلات،  يوم.. يومين... ثلاثة وتذكرت ان رفيقاً لنا لم يعد من مهمة حزبية فتصاعد الدم إلى رأسي ولم يكن ثمة أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن في حالات كهذه، لابد أن سراديب بهجت العطية قد استضافته فحزمنا أمورنا وكان انتقالاً جديداً وكان حلف انقرة كراجي يكاد يطبق على بغداد وكان المستعمرون قد زجوا إلى الميدان بكل ما يمتلكون، وكان شعبنا البطل يتأكل الغيض فصار إلزاماً ان نصدر عدداً جديداً قبل ان ننتهي من نصب الماكنة فلجأنا إلى (الرونيو) فصح ما توقعناه فقد بدأ اليوم الوجوم على الوجوه لابد ان المطبعة قد أغرقتها المياه خلف السدة.. وراح بعضهم يخفف الوقع، أنها في بعقوبة وقد انقطعت عن بغداد وسرت العدوى إلى زبانية التحقيقات فراحوا يشمتون ولكننا عزمنا ان نفوت عليهم فرصة الشماتة وكذلك كان الحال، وكانت اعقد مشاكلنا التي رافقتنا طوال العهد السري هي كيف نفي بمتطلبات النشر المتزايدة، هذه مسودة مقال عن اجتماع انقرة ومؤامرات حلف بغداد وآخر عن نشاط زمرة انتهازية، الموضوعان هامان ولكنهما سيحتلان صفحتين ونصف واتناول الثالثة فإذا هي رسالة من عمال سد دوکان ورابعة من فلاحي المدحتية وتتكاثر الرسائل كلها مؤثرة وتعكس واقع الشعب المر ونضالاته ونختصر ونضيق بين السطور ونستخدم ورقاً سميكاً بدل فواصل الرصاص، ولكننا نضطر إلى تأجيل هذا الخبر أو تلك المقالة وفي قلوبنا مرارة الأسى.

مصاعب كثيرة وظروف قاسية ولكننا ننظر إلى الغد المشرق باسمين.. لابد ان نطبع "اتحاد "الشعب بأكبر مطابع بغداد وها هي اليوم وبعد عام وبعض العام من الثورة المجيدة تطبع في أكبر مطابع بغداد فهنيئاً لكم أيها الرفاق وهنيئاً للشعب الذي لم تستطع قوى الظلام ان نحجب عنه الحقيقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المقال منقول عن كتاب من "العصبة إلى "طريق الشعب" للكاتب والصحفي عبد المنعم الأعسم.