اخر الاخبار

ما من صداقة مخلصة، وشراكة سياسية وفكرية عميقة يمكن أن تضارع تلك التي كانت بين كارل ماركس وفريدريك إنجلز. فهما لم يكتبا (البيان الشيوعي) عام 1848، أو يشاركا في الثورات التي حدثت في ذلك العام حسب، وإنما، أيضا، كتبا أعمالا في فترة أبكر. وفي أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر كان الاثنان قادرين، أخيرا، على أن يعيشا على مقربة من بعض، ويناقشا أفكارهما ومشاريعهما المختلفة. وبعد رحيل ماركس عام 1883 أنجز إنجلز الجزأين الثاني والثالث من مؤلف ماركس (رأس المال) اعتمادا على ما تركه رفيقه. وإذا كان أنجلز يقف في ظل ماركس، وهو ما اعترف به، فانه كان، بالتأكيد، عملاقا فكريا وسياسيا بحق.

كان إنجلز (28 تشرين الثاني 1820 – 5 آب 1895)، الذي ولد في بارمن بألمانيا، شابا واعدا، وفر له والده، الصناعي في مجال النسيج، فرصة العمل في مصنع، وهو ما أبعده عن تكملة دراسته. وقد علم نفسه ذاتيا، وكانت لديه رغبة عارمة في المعرفة.

وكانت السنتان اللتان قضاهما في إنجلترا، حيث أرسل في عمر الثانية والعشرين ليعمل في مصنه والده في مانشستر، حاسمتين في إنضاج قناعاته السياسية. فهناك تعرف، بعمق، على آثار الاستغلال الرأسمالي للبروليتاريا، والملكية الخاصة، والتنافس بين الأفراد. وأقام صلات مع الحركة الشارتية، ووقع في حب الأيرلندية ماري بيرنز، التي لعبت دورا هاما في تطوره.

وكان إنجلز صحفيا لامعا نشر تقاريره في ألمانيا حول الصراعات الاجتماعية. وكتب للصحافة الناطقة بالإنجليزية عن التطورات في القارة الأوروبية. وقد أثار مؤلفه (خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي)، الذي نشر عام 1844، اهتماما كبيرا لدى ماركس، الذي كان قد قرر، في ذلك الوقت، أن يكرس طاقاته للموضوع ذاته.

وفي مقدمة جديدة لمؤلف ماركس (الصراع الطبقي في فرنسا) – 1850 كتبت قبل أشهر من رحيله، صاغ إنجلز نظرية الثورة التي حاول تكييفها للمشهد السياسي الجديد في أوروبا.

وعلى خلاف الاشتراكيين الديمقراطيين، الذين استغلوا نصه في سياق تشريعي إصلاحي، أكد إنجلز على أن "القتال في الشوارع" ما يزال يحتفظ بمكانته في الثورة. وواصل إنجلز القول بأن الثورة لا يمكن تحقيقها من دون المساهمة الفعالة للجماهير، وهو ما يتطلب "عملا مديدا وصبورا".

عازف الكمان الثاني

بعد رحيل ماركس، وبتواضع قلّ نظيره، قال إنجلز عن نفسه: "طيلة حياتي قمت بما خُلِقت من أجله، أي عازف الكمان الثاني. وأثق بأنني أرضيت ضميري تماما، وأنا سعيد في أن يكون لديّ عازف كمان أول مثل ماركس".

وكان إنجلز في تعليقه على كونه "عازف الكمان الثاني" إزاء ماركس يستخدم هذا التشبيه الموسيقي لوصف دوره "التابع" في شراكتهما الفكرية. والحق أن التاريخ لم يكن منصفا لأولئك الذين لعبوا دور العازف الثاني. فقد كُتِب الكثير من الكتب والكراسات والمقالات حول ماركس، ولكن سير الحياة عن إنجلز ومساهمته في الفكر الماركسي كانت، حتى وقت قريب، قليلة ولا تقارن بما كُتِب عن ماركس.

ولكن إنجلز يستحق، في الواقع، ما هو أكبر بكثير من أن يكون "عازفا ثانيا". ويتعين علينا أن نتذكر، من بين أمور كثيرة أخرى، التأثير العميق الذي مارسه إنجلز على صديقه ورفيقه ماركس، فضلا عن مساهماته النظرية الأخرى البارزة. وكان إنجلز قد أدرك، حتى قبل ماركس، جوهر الاقتصاد السياسي. والحق أنه في الوقت الذي بدأ الاثنان يتعرفان على بعضهما كان إنجلز قد نشر مقالات حول الموضوع أكثر من ماركس.

ويستحق إنجلز أن يوضع الى جانب ماركس كنظير له. فهو لم يدعم ماركس عبر التضحية بطاقاته الخاصة لتمويل ودعم عمل ماركس حسب، وإنما قام، أيضا، بمساهمات عظمى معروفة في أفكارهما المشتركة حول المادية التاريخية والفلسفة والاقتصاد، والكثير من حقول المعرفة الأخرى التي أرست أسس النظرية والممارسة في عصرهما وفي المستقبل.

ولم يكن إنجلز مجرد منظّر، بل كان إنسان فعل، ومقاتلا طبقيا. وقد رفض كل الامتيازات ووسائل الراحة التي كان بوسعه، وبكل يسر، أن يتمتع بها، في سبيل حياة يعرف أنه وُلِد من أجلها.

ويقول هذا الإنسان المتواضع الى أبعد حد، والذي غالبا ما قلل من شأن مساهمته التاريخية في "الاشتراكية العلمية"، إنه "لم يكن بوسعي ان أنجز ما أنجزه ماركس. فماركس يقف في مكان أعلى، وينظر الى أفق أبعد، ويتخذ نظرة أوسع وأسرع منا جميعا. كان ماركس عبقريا، بينما كنا، في أحسن الأحوال، نتمتع بموهبة. ومن دونه لم يكن للنظرية أن تكون على ما هي عليه اليوم. ولهذا فانها تحمل، عن حق، إسمه".

مساهمات نظرية بارزة

في عام 1845 نشر إنجلز كتابه الأول (حالة الطبقة العاملة في إنجلترا)، وهو في عمر الرابعة والعشرين. وكما هو واضح من العنوان فقد اعتمد هذا العمل على الملاحظة المباشرة. وقد كتب إنجلز في المقدمة أن معرفة ظروف عمل وحياة البروليتاريا "ضرورية تماما لكي يكون المرء قادرا على أن يرسي أساسا متينا للنظريات الاشتراكية".

وفي السنة ذاتها التي طردت فيها الحكومة الفرنسية ماركس بسبب نشاطاته الشيوعية لحق به إنجلز الى بروكسل. وهناك نشرا (العائلة المقدسة) - 1844، وعنوانه الأصلي (نقد النقد النقدي) ضد برونو باور وأصحابه (وهو أول كتاب مشترك له مع ماركس). وكتب الاثنان مخطوطة (الآيديولوجيا الألمانية) - 1846. وفي الفترة ذاتها ذهب إنجلز الى إنجلترا مع صديقه، وأطلعه مباشرة على ما كان قد رآه وفهمه حول نمط الانتاج الرأسمالي.

وفي عام 1849، وفي أعقاب هزيمة الثورة، أجبر ماركس على الانتقال الى إنجلترا، وسرعان ما عبر إنجلز القنال بعده. وبينما أقام ماركس في لندن، ذهب إنجلز الى مانشستر لترتيب مشروع العائلة. ومن أجل دعم نفسه ومساعدة صديقه وافق على إدارة مصنع والده في مانشستر حتى عام 1870.

وخلال العقدين الأخيرين من حياتهما وعملهما المشترك لم يتوقف إنجلز عن الكتابة. ففي عام 1850 نشر (حرب الفلاحين في ألمانيا)، وهو عن تاريخ التمردات في عامي 1524 – 1525. وفي هذا الكتاب سعى إنجلز الى أن يظهر كيف أن سلوك الطبقة الوسطى في ذلك الوقت كان يشبه سلوك البرجوازية الصغيرة خلال ثورة 1848 – 1849، وكيف أنها كانت مسؤولة عن الهزائم التي حدثت. ولكي يوفر إنجلز لرفيقه أن يكرس وقتا أكبر لاستكمال دراساته الاقتصادية، كتب إنجلز بين أعوام 1851 و1862 ما يقرب من نصف المقالات الخمسمئة التي أسهم ماركس بها في صحيفة (نيويورك تريبيون) الأميركية التي كان مراسلا لها. وكتب إنجلز للقراء الأميركان حول المسار والنتائج المحتملة لحروب كثيرة جرت في أوروبا. وفي أكثر من مناسبة أفلح في التنبؤ بالتطورات وتوقع الستراتيجيات العسكرية المستخدمة في الجبهات المختلفة، مبررا لنفسه الاسم المستعار الذي عرف به بين جميع رفاقه وهو اسم "الجنرال". وفي عامي 1870 – 1871، وبينما كان في ذروة نشاطه في جمعية العمال الأممية، نشر ملاحظاته حول الحرب الفرانكوبروسية، وهي سلسلة من ستين مقالا في جريدة (بال مول) اليومية الإنجليزية، محللا الأحداث العسكرية التي سبقت كومونة باريس.

وخلال السنوات الخمسة عشرة التالية أنجز إنجلز مساهمات نظرية رئيسية في سلسلة من الكتابات الموجهة ضد الخصوم السياسيين في الحركة العمالية. وكان إنجلز يهدف الى مقاومة أفكار بيير-جوزيف برودون في ألمانيا، وأن يوضح للعمال بأن السياسات الإصلاحية لا يمكن أن تحل محل الثورة.

وكان مؤلفه (أنتي دوهرينغ)، الذي نشر عام 1878، حسب وصفه "عرضا مترابطا للمنهج الديالكتيكي والنظرة الشيوعية الى العالم، ومرجعا حاسما في تشكيل التعاليم الماركسية".

وكان لمؤلفه (الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية)، الذي نشر عام 1880، تأثير عظيم. ولكن على الرغم من مآثره، ومن حقيقة أنه انتشر على نطاق واسع كما هو شأن (البيان الشيوعي)، فان تعريفات إنجلز للعلم والاشتراكية العلمية استخدمت لاحقا من جانب بعض الماركسيين اللينينيين المبتذلين لإعاقة أية مناقشة نقدية لموضوعات مؤسسي الشيوعية.

أما مؤلفه (ديالكتيك الطبيعة)، وهو أجزاء من مشروع عمل عليه إنجلز بصورة متقطعة بين أعوام 1873 و1883، فكان موضوع جدل هائل.

وفي عام 1884 نشر إنجلز (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، وهو تحليل للدراسات الأنثروبولوجية التي قام بها الأميركي لويس مورغان.  وكان مورغان قد اكتشف أن العلاقات الأمومية سبقت العلاقات البطرياركية. وبالنسبة لإنجلز كان هذا كشفا هاما في ما يتعلق بأصول البشرية، ذلك أن "نظرية داروين كانت للبيولوجيا، بينما نظرية ماركس حول فائض القيمة كانت للاقتصاد السياسي". وقد تزامن ظهور أول اضطهاد طبقي في التاريخ الإنساني مع اضطهاد جنس النساء من قبل الرجال. وفي ما يتعلق بالمساواة الجندرية، وكذلك الصراعات ضد الكولونيالية، لم يتردد إنجلز في دعم قضية التحرير. وأخيرا، وفي عام 1886 نشر إنجلز عملا مثيرا للجدل استهدف عودة المثالية الى الدوائر الألمانية، وهو (لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية).

جنرال ماركس

في 30 حزيران من عام 1869 تخلى إنجلز عن عمله في مشروع العائلة بمانشستر بعد ما يقرب من عشرين عاما. وكانت في استقباله والترحيب بعودته الى بيته الريفي الصغير في ضواحي تشورلتون حبيبته ليزي بيرنز، والضيفة إليانور ماركس، إبنة صديقه ماركس.

وفي عام 1890 كتبت إليانور تقول: "كان إنجلز، الذي يفكر على نحو ستراتيجي، وغالبا ما يتحدى رؤساءه، مفكرا مثلما كان جنديا. كان إنجلز "الجنرال" (وهو اسم مستعار منح له من قبل إليانور في ضوء صحافته "العسكرية")، وقد انتشر على الفور، ذلك أنه كان يجسد، بوضوح، حقيقة أعمق حول الرجل – ليس، ببساطة، عنايته الشخصية المثالية، واستقامة ظهره، وإنما الشعور المفرط بالتحكم، والقيادة الملهمة، والاحترافية الرائعة التي جسدت دوره البارز في المشروع الماركسي".

ولم يكن إنجلز يتمتع باهتمام دائم بالسيرة (خصوصا حياة جنرالات الجيش البريطاني) حسب، وإنما كان عنيدا في القول إن "الرجال يصنعون تاريخهم ... وإن كل امريء يتبع غايته الخاصة المرغوبة بوعي، وإن هذا، بالضبط، هو نتيجة لهذه الإرادات الكثيرة التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وتأثيراتها المتنوعة على العالم الخارجي، وهي التي تشكل التاريخ. وبالنسبة لإنجلز كان التاريخ، على الدوام، جزئيا، مسألة رغبات فردية، ذلك أن "الإرادة تحددها العاطفة والتشاور. ولكن الروافع التي تحدد، في الحال، الإرادة والتشاور هي من أنماط مختلفة تماما". إنها قد تكون عوامل خارجية أو آيديولوجيات أو كراهيات شخصية أو حتى نزوات فردية. وكان السؤال هو: أية قوى دافعة تقف، في المقابل، وراء هذه الدوافع؟ وما هي الأسباب التاريخية التي تحول نفسها الى هذه الدوافع في عقول الآخرين؟"

إن الطموح الذي يقف وراء سيرة إنجلز هو، على وجه التحديد، تفكيك تلك العواطف والرغبات والكراهيات الشخصية والنزعات الفردية – وكذلك القوى الدافعة والقضايا التاريخية – لإنسان صاغ تاريخه الشخصي، ويواصل صياغة تاريخنا.

الديالكتيك بؤرة المراسلات

تعد مراسلات ماركس وإنجلز كنزا فكريا يتسم بقيمة علمية وسياسية هائلة. وفيها يتكشف مضمون الماركسية النظري فائق الغنى بأشد الوضوح، ذلك أن ماركس وإنجلز يعودان، غير مرة، في الرسائل، الى شتى جوانب مذهبهما.

كان ماركس يقرأ سبع لغات، في حين أتقن إنجلز ما يقرب من أثنتي عشرة لغة. وتدهش المرء رسائلهما بانتقالها الدائم بين اللغات، وبعدد الاقتباسات، بما في ذلك من اللاتينية والإغريقية القديمة. وكان الاثنان عاشقين للأدب، إذ كان ماركس يحفظ مقاطع من شكسبير عن ظهر قلب، ولم يكل من اقتباس أسخيلوس ودانتي وبلزاك في كتاباته. أما إنجلز فكان، لفترة طويلة، عميدا لمعهد شيلر في مانشستر، وكان مولعا بأرسطو وغوته وليسنغ. وسوية مع المناقشات المتواصلة للأحداث العالمية والامكانيات الثورية، كان الكثير من مراسلاتهما يعالج مسيرة التقدم المعاصر في المجالات العلمية. وكان ماركس يعتبر إنجلز، على الدوام، محاورا لا غنى عنه، ويتشاور مع عقله النقدي كلما تعين عليه أن يتخذ موقفا في مسألة مثيرة للجدل.

وإذا ما حاولنا أن نعرف، بكلمة واحدة، بؤرة المراسلات جميعها، فان هذه الكلمة ستكون "الديالكتيك"، وتطبيق الديالكتيك المادي على الاقتصاد السياسي والعلوم الطبيعية والفلسفة والسياسة.

ولرسائل إنجلز، التي أسميت اصطلاحا "الرسائل عن المادية التاريخية"، قيمة نظرية كبيرة، وبينها، على نحو خاص، رسالتاه الى شميدت بتاريخ 5 آب 1890، وبتاريخ 27 تشرين الأول 1890، ورسالته الى مهرينغ بتاريخ 14 تموز 1893، ورسالته الى بورغيوس بتاريخ 25 كانون الثاني 1894. وفي هذه الرسائل ينتقد إنجلز مبتذلي الماركسية، ويعرض الموضوعات الأساسية في الفهم المادي للتاريخ التي صاغها مع ماركس. ويبدي إنجلز حرصا خاصا على التطبيق الخلاق للنظرية الماركسية من جانب الأحزاب الاشتراكية، ويشجب، بشدة، تفسير النظرية تفسيرا عقائديا جامدا.

وقد كتب في رسالة الى زومبارت بتاريخ 11 آذار 1895 يقول: "... لم يكن مفهوم ماركس عن العالم عقيدة جامدة بل طريقة. وهو لا يقدم عقائد جاهزة، بل نقاط انطلاق وطريقة لمواصلة البحث".

وليس من قبيل المصادفة أن ماركس وجه رسائله عن (رأس المال) الى إنجلز. وكان إنجلز أول من يعرض عليه ماركس أفكاره، ويتحقق عنده من صحة استنتاجاته. وقد استفاد ماركس، بصورة واسعة في عمله من نصائح صديقه. وهذا ما تدل عليه، مثلا، رسالة ماركس بتاريخ 28 كانون الثاني 1863، وفيها يطلب من إنجلز أن يبدي رأيه في استعمال الآلات في الانتاج.

وليس من دون سبب أن ماركس كتب، في الساعة الثانية ليلا، في 16 آب 1867، بعد إنجاز تصحيح الملزمة الأخيرة من المجلد الأول من (رأس المال)، رسالة منفعلة الى إنجلز جاء فيها: "إذن، هذا المجلد جاهز. وأنا مدين لك، ولك وحدك، في جعل هذا العمل ممكنا! ولولا تفانيك من أجلي، لما استطعت، في أي حال من الأحوال، أن أقوم بكل العمل الضخم المتعلق بالمجلدات الثلاثة. أعانقك وأنا مفعم بالامتنان! تحية لك يا صديقي العزيز الوفي!".

وعن هذا العمل الهائل، الذي استغرق سنوات عديدة، يتحدث إنجلز في رسالته الى ن. دانييلسون بتاريخ 13 تشرين الثاني 1885، وفي رسالته الى ف. زورغه بتاريخ 29 تشرين الثاني 1886. إن هاتين الرسالتين تؤكدان فكرة أن إنجلز، بإصداره المجلدين الثاني والثالث من (رأس المال)، قد نصب لصديقه العبقري أثرا جليلا كتب عليه، دونما قصد، بأحرف لا تمحى، اسمه الخاص الى جانب اسم ماركس.

راهنية إنجلز  

إذا ما كانت أعمال إنجلز التاريخية قد أضاءت حداثة الرأسمالية وسمتها التاريخية، فإن أعماله الفلسفية تشير الى مفهوم الرأسمالية ككلية ملموسة. وتعزز الرأي بأن إمكانية خلق بديل راديكالي لهذا النظام متأصلة في العلاقات الرأسمالية. وفي عالمنا النيوليبرالي المعاصر، الذي ماتزال تهيمن عليه الفكرة التاتشرية من أنه "ليس هناك بديل"، فان عمل إنجلز يتسم براهنية أعظم من أي وقت مضى.

وكما علّمنا ماركس وإنجلز فان التاريخ لا يقف ساكنا وينبغي النظر اليه وفهمه في سياق التغير الدائم. وفي هذا السياق ينبغي أن لا نتوقع إجابات جاهزة لمشكلاتنا المعاصرة. وعلى الرغم من أننا مانزال نعيش في عالم رأسمالي، كما كان ماركس وإنجلز، فان عالمنا مختلف كثيرا عن عالمهما، حتى على الرغم من أن الوظيفة الأساسية للنظام هي ذاتها.

واليوم علينا أن نرى مساهمة إنجلز كجزء من عملية متواصلة في ارتقاء الأفكار. إن الماركسية، شأن أية نظرية أخرى، بعيدة عن أن تكون إعلانا نهائيا عن الحقيقة، وكلمة نهائية في نظرية التطور الاجتماعي. ولا ريب أن كلا من ماركس وإنجلز كانا سيؤكدان ذلك.

وكان ماركس وإنجلز أول من أكد الدور الأساسي للاقتصاد في العملية التاريخية، وهو ما يعترف به معظم المؤرخين المعاصرين. فقد طورا المنهجية الأساسية للمادية التاريخية، التي هي أداة فعالة في فهم أفضل لتاريخنا.

إن المبدأ الأساسي للماركسية – الصراع الطبقي باعتباره المحرك الرئيسي للتحول الاجتماعي – ما يزال سبيلا لادراك وتحليل المجتمعات في عملية تطورها. ولكنه ليس العامل الوحيد الذي يتحكم بالتحول الاجتماعي. وبدون ذلك الفهم لن يكون هناك معنى لحاضرنا. وأما مستقبلنا فسيكون مثل تجول في غابة كثيفة من دون بوصلة. وقد زودنا ماركس وإنجلز ببوصلة، ونحن بحاجة الى استخدامها إذا ما أردنا صياغة مستقبل أفضل.

إن أفضل طريقة لاستذكار إنجلز في ذكرى رحيله الـ 130 واستلهام حياته وأفكاره، تكمن في أن لا نخشى من تفكيرنا الإبداعي، وأن لا نصوره أو ماركس كأيقونات نبجّلها ونتبعها بعبودية.

يطيب لنا، ونحن نحتفي بهذه الذكرى الجليلة، أن نختم بالقول إنه في رسالة الى فرانز مهرينغ بتاريخ 14 تموز 1893 يقول إنجلز:" ... أبدأ من النهاية، من الملحق "في المادية التاريخية"، الذي عرضتَ فيه كنه المسألة عرضا ممتازا ومقنعا لكل امريء لا رأي مسبقا له. وإذا كانت تظهر عندي بعض الاعتراضات، فليس ذلك إلا على أنك تنسب لي من الأفضال أكثر مما ينبغي، حتى وإن اعتبرنا كل ما يبلغ اليه تفكيري، أغلب الظن – مع مرور الزمن – بصورة مستقلة، وما اكتشفه ماركس قبلي بزمن طويل، وهو الذي يتحلى بنظر أبعد وأفق أوسع. إن من حالفه الحظ وعمل في سياق أربعين سنة مع رجل مثل ماركس، لا يتمتع، عادة، في حياته بذلك التقدير الذي يمكنه، على ما يبدو، أن يأمل به. ولكن عندما يموت الرجل العظيم، يحدث بكل سهولة أن يشرعوا في تقدير رفيقه الأقل شأنا منه بأكثر مما يستحق، وهذا ما يحدث لي الآن على ما يبدو ...".