أدرك الماركسيون الأوائل، ثم الشيوعيون بعد تأسيس حزبهم الشيوعي العراقي عام 1934، أهمية العمل الفكري، ونشر الوعي بين صفوف الشعب، منطلقين من مقولة
ماركس الشهيرة، بأن الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنعها.
ولهذا اهتمت صحافة الحزب منذ البداية بالخطاب الذي ينهض بالناس كي يخرجوا من ربقة الاستغلال والاستعباد، وتمكينهم من النهوض بإرادة حرة لكسر قيوده، وإنجاز ما يصبون إليه من حرية وعدالة إجتماعية، ونمو اقتصادي واجتماعي وتحقيق إستقلال وسيادة الوطن.
وساهمت صحافة الحزب مع غيرها من المنابر الوطنية في إيقاظ الوعي وإسناد انتفاضات الشعب المختلفة وإحتجاجاته، فعرف العديد من الفلاحين المنسيين في الأرياف، وكادحي المدن عبر المنشور السري للحزب، طريقهم وبوصلتهم في الحياة، وتحقيق التضامن والانخراط في العمل الحزبي والنقابي، متحملين عناء المطاردة وإرهاب السلطات وإعتقالاتها، بعد أن امتلكوا فكرا أصبح سلاحا ماضيا بأيديهم إتجاه الأعداء.
والسؤال كيف أستطاع الحزب الفتي مخاطبة الجمهور في صحافته؟ وأي لغة استخدم؟ وكيف تجاوز قضية الأمية الأبجدية المنتشرة عند الأوساط الكادحة وحتى طلائعها آنذاك، وبالتالي إقناعهم بالشيوعية، وأن الحزب يدافع عن قضاياهم، ويطلب منهم تجاوز عملهم العفوي وتأثيرات الوضع الاجتماعي المتخلف عليهم؟
قبل هذا أو وذاك، رأى الرفيق فهد، أن أس هذا العمل هو التنظيم، ولكن أي تنظيم يريد؟ على ذلك يجيب في صحيفة القاعدة 9-11 آب عام 1944
قائلا:
(تستطيع الأحزاب الشيوعية في العالم القيام بتأدية واجباتها في هذه المرحلة -مرحلة الإمبريالزم- تحتم عليها أن تكون مجاهدة، أحزابا جماهيرية، لها قواعد عامة ثابتة).
ويستشهد بمقولة لينين في مكان آخر (إنه على الحزب أن يتبع أشكال التنظيم التي تمكنه من استغلال جميع الإمكانيات في العمل، أن يدرب قادته وكادره تدريبا يجعلهم أهلا لقيادة حزب مفروض عليه أن يقوم بدور الطليعة).
ومن هذه العلاقة الجدلية بين التنظيم الحزبي والعمل الصحفي والتعبوي، أرسى فهد قواعد التنظيم وتوجهاته كي ينجح في مخاطبة الناس ورفع وعيهم رغم عمله السري، حتى يكون للشعب رأي عام قوي. فالتنظيم لا يوزع الصحيفة فقط، إنما تصبح مرشده بالعمل أيضا، بعد ان يتمكن الرفاق من إيصال مضامينها إلى الجماهير ومن حولهم.
وقد تفنن الشيوعيون رغم إرهاب السلطات بإيجاد كل الوسائل من أجل إصدار صحفهم السرية (كفاح الشعب، الشرارة، والقاعدة واتحاد الشعب) ثم العلنية (العصبة، والأساس واتحاد الشعب، وطريق الشعب والفكر الجديد) بالإضافة إلى الصحافة الشيوعية باللغة الكردية مثل ئازادي وريكاي كردستان، وشكلت متجمعة صداعا دائما للسلطات ، إلى جانب تعزيز وتوسيع التنظيم وقيادة المظاهرات حتى السريعة منها للفت انتباه الشارع، بالإضافة إلى الاستفادة من المنابر الوطنية المجازة رسميا والكتابة فيها. ليس هذا فحسب بل العمل على تقويم خطابها. أوضح فهد في جريدة العصبة (إنه على الصحافة الوطنية أن تنتقد جميع المفاهيم الإستعمارية والإندحارية لكي لاتعلق بأذهان البسطاء وأحيانا غير البسطاء وان لا تكون هي (الصحافة الوطنية) واسطة لنقل تلك المفاهيم عن طريق نقل الاخبار والتصريحات والنشر كالإعلان عن مجلة المختار مثلا).
ويذكر أن مجلة المختار النسخة العربية (التي صدرت في مصر سبتمبر (ايلول) 1943) من مجلة ريدر دايجست الأمريكية الشهيرة التي صدرت عام 1920. استخدمت كأداة لنشر الافكار والقيم الأمريكية في العالم العربي خلال فترة الحرب الباردة. وكشف أخيرا أن وكالة المخابرات الامريكية قد دعمت هذه المجلة ضمن تنظيم جبهة عريضة من (أجل الاستيلاء على عقول البشر).
وتميزت لغة صحافة الحزب السرية التي ساهم فيها الرفيق فهد بالوضوح والبساطة في تقريب المفاهيم الصعبة والعميقة، والدفاع عن هموم وقضايا الناس، والاهتمام الخاص بالعمال وتقريب الذين يمتازون بالوعي الطبقي والوضوح الفكري قياسا ب (الأفندية)، لمعرفته بحداثة البروليتاريا العراقية وقلة خبرتهم بأساليب الانتهازية وكذلك قلة الكادر الحزبي المتقن للنظرية الثورية وتطبيقها.
وكشفت الأحداث العلاقة الطردية بين قوة التنظيم الحزبي وصحافته، فبعد ثورة 14 تموز أصبحت (اتحاد الشعب) الصحيفة الأولى في العراق، أذ وصل توزيعها بحدود 28الف نسخة يوميا. وتميزت بكتابها أمثال الشهيد أبو سعيد (عبد الجبار وهبي).
كما أن (طريق الشعب) العلنية التي صدرت في سبتمبر (أيلول) 1973، نافست الصحف الرسمية من حيث التوزيع، وتميزت بموادها التي لاقت جماهيرية واسعة بفضل استقطاب خيرة الكتاب والمحررين من رفاق وأصدقاء. ولكن كل هذا لم يكن، بدون دعم التنظيمات من خلال المكاتب الصحفية في المحافظات ونشاطات المختصات الحزبية للمثقفين، والمعلمين، والاقتصاديين، والأطباء، وأصحاب المهن الطبية، والمهندسين، والكوادر الفلاحية والعمالية وغيرهم) بالإضافة إلى دعم المنظمات الديمقراطية (إتحاد الطلبة، الشبيبة الديمقراطية ورابطة المرأة العراقية) وكذلك دور مناضلي الحزب في توزيع الجريدة وتوصيلها إلى أماكن بعيدة، وإلى الأماكن التي منعت السلطات وصول الجريدة اليها.
ويذكر أن العديد من العاملين في طريق الشعب ومكاتبها الصحفية تعرضوا للاعتقال والتعذيب وأستشهد منهم أعلام مهمة ظلت وتظل ساطعة في وجدان كل الرفاق، وغيب الموت عدد آخر أثروا ساحات النضال في كتاباتهم وانحيازهم رغم قساوة الظروف إلى شعبهم. كما كان معظم العاملين في الجريدة يعيشون على الكفاف متحملين شظف العيش، ولم يكن أحد منهم يتذمر، لقناعتهم بظروف الحزب، وإيمانهم أنهم يؤدون واجبهم إتجاه الحزب والشعب.
وما أحوجنا اليوم إلى دراسة هذه التجارب الناجحة لتفعيل دور صحافة الحزب وتقوية تنظيماتنا وجعلها جماهيرية كما يقول الرفيق فهد ومجاهدة، لمقاومة قوى الفساد والخراب والطائفية والظلام المتحكمة برقاب الناس.
وقد يرد البعض بأن الظروف تغييرت، وكذلك بعض القناعات، ولا يمكن عودة الزمان إلى الوراء، وأقول هذا صحيح، غير أنه من المؤكد أيضا أن نهوض التنظيم وتطويره كفيل بإزالة كل العقبات، خصوصا وأن فئات واسعة من الشعب متضررة من سياسة الطغمة الحاكمة، فهي بحاجة إلى من يحول أفعالها العفوية ضد الظلم إلى عمل منظم، وهو ما أوضحه غرامشي في (حرب المواقع) مادامت هذه القوى تفرض هيمنتها و سلطتها المباشرة وغير المباشرة عبر المؤسسات الثقافية والدينية والتعليمية والإعلامية، فأن ذلك يدعو (الحركات التقدمية أن تبني قواعدها الشعبية من خلال التغلغل في المجتمع المدني وإحداث تغييرات ثقافية وفكرية).