لم تكن الصحافة الشيوعية في العراق عبر تأريخها الممتد لأكثر من مائة عام ويزيد، مجرد إصدار ورقي عادي مقارنة ببقية الصحف المتداولة، انما كانت مدرسة فكرية وصحافة علمية تقدمية رصينة تنفح من الواقع العراقي المعاش بكل حيثياته الطبقية والنضالية والثقافية بمنهج علمي تربى على مواكبتها أجيال واجيال، تناولت واقعا مريرا وعكست آلام المسحوقين والطبقة العاملة وكل الفئات العراقية المحرومة من ابسط حقوق العيش الإنساني حين كرست أقلام مناضلة غير مهادنة لها رسالة إنسانية بمواقف نضالية أثبتت رصانتها واسست لمنهج علمي قد يندر أن تتسم به صحف أخرى معاصرة لها او حتى لاحقة.
كانت الصحافة الشيوعية صحافة علم ومعرفة بتشخيص موضوعي لواقع المعاناة لشريحة المحرومين والمسحوقين نذرت مهمتها الأساسية لتشخيص الخلل وفضح الممارسات غير الإنسانية التي كانت تمارسها سلطات القمع لما تتسم به من تجاوزات خطيرة بحق غالبية العراقيين والطبقة العاملة العراقية وشريحة الفلاحين المعدمين، حيث آلت على نفسها منذ سنوات التأسيس الأولى أن تكون منبرا حقيقيا لبث الوعي الطبقي والمعرفة العلمية لتشخيص مثالب الواقع المرير ونشر الفكر العلمي الطليعي والتقدمي المستمد من الفكر الماركسي اللينيني كأسلوب عمل جديد لم يكن جل العراقيين على دراية به خلال الأيام الأولى آنذاك، تناولت الواقع العراقي بكتابات رصينة وكاشفة لمثالب السلطات القمعية، وبرز كتاب مهمون اعتاد القارئ العراقي على متابعاتهم وتحليلاتهم وتصديهم للممارسات التي اضرت كثيرا بواقع المواطنين، مما حدا بالمتابعين بشتى مستوياتهم أن يجدوا في صحافتهم الجماهيرية هذه مرشدا ومدرسة فكرية ومطلبية أسست لقيم حقيقية لما تكون عليه الصحافة التقدمية المغايرة لبقية الصحف الصفراء الموالية لسلطات القمع بتشويهها لواقع الحال للأوضاع المزرية. وكنا نحن جيل الخمسينيات والستينيات التلامذة الحقيقيين حيث تربينا ونهلنا وتعلمنا ابجديات الوعي السياسي والطبقي. حيث كنا وبفرح غامر نتابع جريدة اتحاد الشعب، ومن ثم طريق الشعب ومتابعهما بلهفة وشوق ونزوع معرفي من صفحاتها الأولى حتى الأخيرة دون أن نغفل او نتجاوز سطرا واحدا لأننا كنا نعتبرها مدرستنا ووسيلة توجهنا وتعميق ثقافتنا بأبجديتها الأولى.
كانت الجريدة وسيلة للتحريض وكشف المثالب متصدية لتجاوزات السلطة الفاشية التي كانت اشد ما يزعجها ما تبثه من وعي طليعي وفكري لخلق جيل مغاير لما اعتادوه قبلا.
ومن باب تسليط الضوء على تاريخ الصحافة الشيوعية منذ تأسيسها ان كانت سرية او علنية نذكر نبذة تاريخية مختصرة لكفاح الصحافة الشيوعية الخالد.
صحيفة القاعدة وهي لسان حال الحزب استمر صدورها ثلاثة عشر عاما ومن ثم فرضت عليها القيود من قبل الطغمة الحاكمة آنذاك. وكانت بداية صدور الصحافة الشيوعية في العراق صدور جريدة الصحيفة عام 1924 وهي الميلاد الحقيقي للصحافة الشيوعية في العراق.
لعب الرفيق الخالد فهد دورا بارزا في إرساء المبادئ الأساسية للصحافة الشيوعية في العراق وكان ذلك قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي حيث عمل الرفيق الخالد مراسلا لجريدة الأهالي في الناصرية وقد تبنى من خلال كتاباته معانة الكادحين من عمال وفلاحين وشرائح معدمة، واللافت أنه كان يذيل مقالاته تحت اسم مستعار، ومن ثم اصدرت الخلايا الأولى للحزب جريدة كفاح الشعب بتاريخ 31 تموز عام 1935 ورغم ان الرفيق فهد كان خارج الوطن لكنه كان من ابرز كتابها وكان له الدور الأكبر في إرساء الأسس القويمة للصحافة الشيوعية في العراق.
ومن ثم صدرت جريدة الشرارة عام 1940 تلتها صحيفة القاعدة عام 1943ومن ثم جريدة العمل ثم وحدة النضال وفيما بعد جريدة النجمة (شورش)، وحين كان الرفاق في السجن أصدروا جريدتي الأساس والعصبة عام 1953-1954وهنا يلاحظ القارئ حرص الرفاق الأوائل على سعيهم لإصدار الصحف لنشر الفكر الشيوعي باعتبار ذلك من اهم المهام المناطة بالرفاق وقناعتهم بأهمية الصحافة الشيوعية لنشر الفكر والوعي الطبقي وبالتالي تقوية أسس العمل الحزبي القويم.
أصدر الرفاق فيما بعد جريدة آزادي (الحرية) باللغة الكردية وكانت سرية وكان الرفيقان فهد وحازم يشرفان عليها بمشاركة الملا شريف عثمان.
كما أصدر الحزب جريدة همك (القاعدة) وكانت ناطقة بلسان الفرع الأرمني للحزب. أسس الحزب دار نشر اسماها دار الحكمة لإصدار الكتب التقدمية لكن السلطات الملكية آنذاك اغلقتها خشية من نشر الفكر التقدمي.
ان الصحافة الشيوعية في العراق لعبت دورا رئيسيا في بث الوعي الماركسي- اللينيني وكانت مهمة ليست بالهينة لكون عيون سلطات القمع آنذاك اشد ما تخشاه من هكذا حراك إعلامي يهدد وجودها ويستهدف سلطتها، سيما أن الوعي الطبقي كان في بداياته ويتطلب جهدا فكريا وعلميا لبث الوعي السياسي التقدمي، والمشهود للصحافة الشيوعية في العراق انها كانت منهجا فكريا يحاكي وعي المواطنين بشتى مستوياتهم ومعارفهم وكان لها الدور الأعظم في اتساع التأثير الإيجابي وكانت بمثابة ثورة فكرية حقيقية يراد منها تأسيس فكر تقدمي جديد لم يكن المواطن العراقي على دراية به فبرز كتاب تقدميون نهلوا من الفكر الشيوعي بنضال مستميت ونذروا انفسهم واقلامهم ووعيهم التقدمي في ترسيخ مبادئ طبقية كان العراق أحوج ما يكون إليه، لأنه السبب الرئيسي في تغيير واقع الحال فكريا وعلميا. وطبقا لذلك التأسيس الإعلامي بدأ الحراك الجماهيري والانتفاضات المطالبة بالتغيير والتصدي لتجاوزات السلطات الملكية القمعية آنذاك ومدى تبعيتها للمستعمر المحتل وتأثيراته في بسط النفوذ المعادي لتطلعات الشعب العراقي بكادحيه وفئاته المجتمعية المحرومة.
ومن أجمل الذكريات واسماها نذكر هنا مدى تعلقنا وعلاقتنا الحميمة مع صحافتنا الشيوعية الخالدة وكيف كانت مدرستنا الأولى وبث الوعي بأبجدياته التي ظلت راسخة في وجداننا وكفاحنا وصلابة نضالنا ضد الحملات القمعية الشرسة منذ العهد الملكي التابع لسلطة الاحتلال حتى يومنا هذا.
أذكر هنا هذا الحدث الذي يوضح ما اسلفناه، ذلك انني كنت في نهاية العقد الأول من عمري في نهاية الخمسينيات، كنا نسكن في المجزرة (الميزرة) في بيوت طينية متهالكة ولا تتوفر فيها أبسط وسائل العيش الآدمي، فلا مدارس ولا مستشفيات ولا ماء ولا كهرباء ولا خدمات أخرى وكان يسكن معنا العم بشكو رجل كردي في عقده الخامس، كان مناضلا شيوعيا صلبا ومتابعا لسياسة الحزب زمن الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم، كان هذا الشيوعي الفذ معلمي الأول الذي بث في وعي البسيط العشق الحقيقي للحزب الشيوعي، اعتاد ان يكلفني يوميا بالذهاب الى خلف السدة جهة باب الشيخ لأشتري جريدة اتحاد الشعب وأعود مسرعا لنبدأ بقراءة المقالات وكان هو من يفسر ما موجود في تلك المقالات ومعانيها الكبيرة، وكان من أهم الكتاب الذي دأب على قراءة عموده، الرفيق الخالد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، كان يقرأ المقالة ويبتسم مفسرا لي محتواها بلغة بغدادية ساخرة، وهكذا استمر الحال حتى وقعت الكارثة الحقيقية بالتآمر على الزعيم الوطني الشهيد عبد الكريم قاسم في شباط الأسود عام 1963. عندها هو العم بشكو متخفيا في غرفته ويكلفني بقضاء بعض الحاجات التي كان هو بأمس الحاجة لها خشية أن تصل اليه أيادي القتلة البعثيين وحرسهم المجرم.
كان العم بشكو لا يمر يوم دون ان يرجع لأرشيف الجريدة ليعاود قراءته وفاء لكتابها الذين وصلت اليهن يد الجلادين القتلة. وفي يوم وجدته يبكي بحرقة وعند سؤالي عن السبب قال لي بان الجلادين قتلوا أبا سعيد. نشروا جسده الطاهر، فشاركته حزنه المرير، ومنذ تلك اللحظة حتى يومنا بعد أن تجاوزت عقدي السابع بقيت تلك اللحظات شاخصة امامي ودموع العم بشكو لم تجف أبدا.
ونحن نغادر هذا التناول لتاريخ صحافتنا الشيوعية المشرف، نؤكد بأن الفكر الشيوعي مهما تعرض للمحن وحملات الإبادة، ما افلحت قوى الظلام ومجرمو البعث ومن سبقهم وقد يأتي لاحقون من الحد من النشاط الوطني المتشبث بأحلام الفقراء ولم ولن يتخلى عن النضال الطبقي والذي كينونة الشيوعي وسر وجوده الوطني والإنساني
المجد للعيد الوطني لصحافتنا الشيوعية المناضلة
والمجد والخلود لكتابها والعاملين فيها
ومجدا لقرائها الأوفياء