اخر الاخبار

للصحافة الشيوعية العراقية تأريخ مجيد، حافل بالعمل الصحفي الملتزم والعطاء الثري، السياسي والفكري والثقافي، إلى جانب تنمية الوعي والفكر الحر والثقافة التقدمية، ولحشد شغيلة اليد والفكر، في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الوطنية العليا، وفي النضال ضد الظلم والجور والاستبداد، متحدية أشرس الهجمات، والصعاب والتحديات، مواصلة مسيرتها المظفرة، صامدة ومتمسكة بقيم الحرية والإستقلال الناجز والدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.

وقد كانت، طيلة العقود التسعة المنصرمة من عمرها المديد، مراَة صادقة وأمينة لنضالات حزب الشيوعيين العراقيين، معرفة بوثائق مؤتمراته الوطنية، ببرنامجه وتقاريره السياسية، وبنظامه الداخلي، موصلة لقرائها مواقفه الوطنية والاممية المواكبة للأحداث وللتطورات، مسترشدة بها في عملها اليومي.

ولقد تميزت مهنياً من خلال تمثيلهاً بكل جرأة وموضوعية لنبض الشارع العراقي، مبينة الواقع السائد للعراقيين والعراقيات، ومعاناتهم اليومية، ومطالبهم، وطموحاتهم المشروعة في الحياة الكريمة والمستقبل الأفضل.

وتحولت عملياً إلى نموذج متميز بنهجها الإعلامي المهني، وأصبحت في الواقع مدرسة حقيقية متطورة في السياسة والفكر والثقافة، في التنوير والتوعية، في الدعاية والترويج والتحريض والتعبئة.

في هذه المناسبة العزيزة علينا أود أن أعبر عن فخري واعتزازي لكوني كنت واحداً من المساهمين في "طريق الشعب" اليومية، وفي جريدة " الفكر الجديد"(بيري نوى) الأسبوعية، وفي مجلة " الثقافة الجديدة" الشهرية. ولا أغالي إذا قلت بأن فترة عملي في " طريق الشعب" العلنية، كمحرر طبي وعلمي، كانت من بين أجمل الأعوام التي عشتها، خلال الأعوام الـ 85 المنصرمة من حياتي. علماً بأنني لم أتخرج من كلية الصحافة والإعلام، لأنني لم أدرس الصحافة في أي كلية، وإنما تعلمت الكتابة بجهود ذاتية، وأصبحت تلميذاً نجيباً من تلاميذ مدرسة "اتحاد الشعب"، التي كنت مواظباً على قراءتها، وبنهم، متأثراً، بأسلوب كتابة افتتاحيتها، وبزاويتي "أبو سعيد" و "أبو كاطع"، وبالمقالات، والتحقيقات، التي كانت تنشرها.

ولست الوحيد الذي تتلمذ في مدرسة "اتحاد الشعب" / "طريق الشعب" العريقة، فقد تخرج المئات منها، وأصبحوا كوادر صحفية وإعلامية عراقية مرموقة، وما يزال العشرات منهم أحياء يرزقون..

انضممت إلى أسرة تحرير " طريق الشعب" في الأشهر الأولى من صدورها عام 1973، بعد أن أنهيت الخدمة العسكرية وعدت لعملي في بغداد. وواصلت العمل فيها حتى الشهر الأخير الذي سبق إغلاقها من قبل النظام البعثي في مطلع عام 1979، حيث طلب الرفاق مني الاختفاء بعد ان جرت محاولة فاشلة لاختطافي من قبل الأجهزة البعثية القمعية، وشرعت باعتقال حتى الشيوعيين المكشوفين، من ممثلي حزبنا، وأنا منهم.

أتشرف بأنني ساهمت برفد العديد من صفحات "طريق الشعب"، مثل: "شؤون عربية ودولية" و  "ثقافة" و "المرأة" و"حياة الشعب" و " المهنية"، وغيرها، بالإضافة إلى "الثقافة الجديدة" و" الفكر الجديد"، بالمئات من الترجمات، والمقالات، والمتابعات، والدراسات، في مجالات الصحة، وطب المجتمع، والبيئة والتلوث البيئي، والسلامة المهنية، وفي قضايا الأمومة والطفولة، وغيرها..

طيلة تلك الفترة، كان رئيس تحرير "طريق الشعب" الرفيق الفقيد المحامي عبد الرزاق الصافي، ومدير تحريرها الصحفي المعروف فخري كريم، ومدير الإدارة المرحوم نوزاد نوري. وكان يعمل في أقسام الجريدة كوكبة لامعة من الكتاب والصحفيين والسياسيين والمفكرين، والشعراء والأدباء والمترجمين، والرسامين، الذين عاصرتهم، أذكر منهم: المرحوم شمران الياسري، المرحوم حميد بخش (أبو زكي)، المرحوم عزيز سباهي، المرحوم محمد كريم فتح الله، المرحوم عبد السلام الناصري، جلال الدباغ، المرحوم هادي العلوي، سلوى زكو، المرحوم د.فائق بطي، المرحوم إبراهيم الحريري، جيان، فاضل ثامر، المرحوم سعدي يوسف، المرحوم رشدي العامل، المرحوم يوسف الصائغ، عبد المنعم الأعسم، حميد الخاقاني، رضا الظاهر، صادق الصائغ، المرحوم عبد اللطيف الراوي، سعاد الجزائري، فاطمة المحسن، أبراهيم أحمد، د. مجيد الراضي، المرحوم محمد سعيد الصكار، المرحوم  ليث الحمداني، المرحوم عدنان حسين، فاضل السلطاني، عامر بدر حسون، المرحوم د. فالح عبد الجبار، ياسين النصير، زهير الجزائري، د. نبيل ياسين، المرحومة رجاء الزنبوي، عبد اللطيف السعدي ، المرحوم د. صادق البلادي(حمدان يوسف)، المرحوم عبد الإله النعيمي، د. عصام الخفاجي، المرحوم د. محمد عارف، عبد الكريم كاصد، المرحوم فاضل العزاوي، جبار ياسين، عواد ناصر، د.محمد خلف، عبد جعفر، جمعة اللامي، د. محمد كامل عارف، المرحوم د. عدنان عاكف، هادي محمود، فيصل لعيبي، المرحوم مؤيد نعمة، عفيفة لعيبي ، فاضل الربيعي.. وهناك غيرهم بالتأكيد، أعتذر لمن فاتني ذكر أسمه- بسبب الشيخوخة ومتاعبها..

عملت أول الأمر في قسم " المنوعات"(الصفحة الأخيرة)، محرراً للزاوية الطبية. وقد تعاقب على رئاسة القسم كل من: المرحوم أبو كاطع، حميد الخاقاني، المرحوم مصطفى عبود، والمرحوم يوسف الصائغ..

كانت "الزاوية الطبية" أسبوعية، تصدر كل يوم ثلاثاء. وقد لعبت دوراً في نشر الوعي الصحي والثقافة الطبية الشعبية. ونظمت العديد من حملات التوعية الصحية التي تابعها اَلاف القراء، كل حملة كانت على مدى شهر كامل، ومنها: "ضد التدخين"، "ضد الكحول"، " ضد السل"، " ضد الكوليرا". والحملة الأخيرة تزامنت مع انتشار مرض الكوليرا في العراق عام 1976، وعلى أثرها نظمت وزارة الصحة برنامجاً إعلامياً أسبوعيا في التلفزيون يظهر فيه مسؤولون يتحدثون عن سبل الوقاية من الكوليرا، لكنهم كانوا يتجنبون الحديث عن أهمية التطعيم ضد الكوليرا لأن السلطة لم توفر الكميات الكافية منه للمواطنين، واقتصرت التطعيم على البعثيين..

في اليوم التالي نشرنا تعليقاً في "الزاوية الطبية" قلنا فيه ان المسؤول الذي خرج ليلة أمس على المواطنين بموعظة " التطعيم لا يفيد كثيراً في الوقاية" نسي أنه كان يتحدث وخلفه بوستر كبير أعدته منظمة الصحة العالمية يدعو إلى أهمية التطعيم ضد الكوليرا. بعد ذلك انهالت تلفونات المواطنين تطالب الوزارة " وفروا التطعيم إن كنتم حريصون علينا". واعترف معدوا البرنامج في الاسبوع التالي بان " طريق الشعب أحرجتنا ".. 

وعلى ذكر الصحة، فان صحافة حزبنا هي أول من دعا إلى الاهتمام بالطب الوقائي إلى جانب العلاجي. وكانت " طريق الشعب" هي أول صحيفة عراقية ساهم في تحريرها، وفي تقديم الاستشارات العلمية لقرائها، علماء وأطباء، في مقدمتهم العالم الجليل المرحوم محمد عبد اللطيف مطلب، والأطباء الأخصائيون: المرحوم عبد الصمد نعمان، المرحوم محمد صالح سميسم، والمرحوم صادق البلادي، وكذلك القانوني الشهيد د. صفاء الحافظ، وغيرهم.

في عام 1977 تطورت "الزاوية الطبية" إلى صفحة كاملة، أسميناها "طب علوم تقنية"، وكانت أسبوعية أيضاً. يحتوي كل عدد: أخبار وتقارير وتحقيقات علمية منوعة، بالإضافة لافتتاحية، تناولنا فيها قضايا صحية- طبية، وبيئية وعلمية هامة، تهم المجتمع العراقي. وكنا ننتقد التقصير والسلبيات، ونضع الحلول والمعالجات لها.

لم يكن عملنا سهلاً إطلاقاً، وساد، منذ عام 1975، ظرف سياسي متشنج، مقروناً بحملة معادية لحزبنا، كانت أول الأمر خفية، ثم أصبحت علنية وسافرة، انتهت بغلق الجريدة.. تلك الظروف فرضت علينا، كشيوعيين، صعوبات جمة، فكان علينا كإعلاميين البحث والإبداع باستمرار في سبل تحركنا، وفي مجمل عملنا، وبخاصة كيفية إيصال المعلومة المطلوبة، وصياغة الفكرة، وتحقيق الهدف منها، بحيث تمر على الرقيب، ولا تعرض الجريدة لمضايقات إضافية، في وقت كانت الأجهزة البعثية القمعية تترصد كل كلمة وكل صورة وكل رسم أو تخطيط.

ولكن.. مقابل الصعوبات، كانت تسود عملنا في الجريدة أجواء أخرى تخفف الأعباء وتسهل المهمة.. فلن أنسى أبدا ذلك الجو الرفاقي الحميم، والاحترام المتبادل، والعمل الجماعي، وتقدير الجهد المبذول، وما إلى ذلك، الذي كان يسود عملنا في الجريدة. وهنا أشير بأنني شخصياً لم ألمس من أي رفيق مسؤول في الجريدة استخفافا أو تعديا على أي مساهمة، لا بل أن أي تغيير يرتأيه رئيس القسم أو رئيس التحرير يتم بموافقة الكاتب. وقد طورت هذه الطريقة العديد من المحررين الشباب.

ولن أنسى أيضاً سمة التواضع الجم، التي لمستها وعايشتها، حيث لا فروق "طبقية"، ولا امتيازات، ولا تكبر، أو تعال، بين رئيس التحرير أو مدير التحرير وحتى أصغر محرر.. وكانت هذه السمات متجسدة في العمل اليومي، وفي اجتماعات الأقسام، واجتماعات مجلس التحرير الدورية، وحتى أثناء " لزم السره" في حديقة الجريدة، في شارع السعدون، بانتظار وجبة طعام الغداء من يد الرفيقة العزيزة أم جاسم، حيث يقف رئيس التحرير، أو مدير التحرير، أو مدير الإدارة، خلف أي محرر أو شغيل كان قد سبقه ليتناول وجبته..

إن مثل تلك الأجواء الحميمة، من جهة، وعظم المسؤولية، من جهة ثانية، ونحن نؤدي مهمة إعلامية وفكرية وسياسية، مطالبين بإنجازها على خير ما يرام، رغم كل العقبات، كانت هي المعين لنا على تخطي الصعوبات الكثيرة، خصوصاً في الأعوام الثلاثة الأخيرة، وأتعسها العام الأخير من عمر الجريدة، منذ أن شرع البعثيون الأوباش بالمضايقات والاعتقالات والتعذيب بحق الشيوعيين، وبضمنهم عدد غير قليل من المحررين، ومحاولة إسقاطهم سياسياً.. لكن نظامهم المقيت ذهب إلى مزبلة التأريخ غير مأسوف عليه، بينما واصلت " طريق الشعب" و"الثقافة الجديدة" المسيرة النضالية والمهنية للصحافة الشيوعية العراقية..

ختاماً، أتمنى على قيادة حزبنا أن تطرح للمناقشة ضرورة عودة " طريق الشعب" يومية، وكيفية توسيع حجم قراءها. والتوجه للكتاب المعروفين، من رفاق وأصدقاء ومحبي الحزب، وحثهم وتشجيعهم لنشر مساهماتهم وإبداعاتهم، بضمان الانفتاح بصدر رحب، وتقبل الرأي الآخر، والنقد البناء، وإلغاء الرقابة الحزبية المتزمتة عن التحرير..

وكل عام وصحافتنا الشيوعية بخير!