مثّل صدور صحيفة "كفاح الشعب" في نهاية تموز 1935، وما تلاها من صحف ومجلات أصدرها الحزب الشيوعي العراقي طيلة عقود، نقلة نوعية نحو إعلام وثقافة ملتزمتين بقضايا الوطن والشعب، حيث أكدت هذه الصحف والمجلات فيما تنشر على استقلال العراق وحفظ سيادته، ومحاربة مخططات الاستعمار ومن يُمثّله من ساسة العراق، وقارعت بالثقافة والفكر الأنظمة المستبدة وما جلبته من ويلات ومآسي لبلدنا وشعبنا، وعملت على رفع وعي الجماهير بالقضايا التي تهمها والمتمثّلة ببناء نظام ديمقراطي ذي مؤسسات دستورية، يضمن الحريات العامة والمساواة ويحقق العدالة الاجتماعية. وعلى هذا الطريق الشاق، قدمت الصحافة الشيوعية طيلة عمرها المديد كوكبة من كتابها اللامعين شهداء لقضية الثقافة التقدمية الملتزمة بقضايا مختلف فئات الشعب خصوصا الكادحين منهم.
لذلك، شكلت صحافة الحزب، أحد أهم روافد ثقافتي، ووسعت من آفاق معرفتي، فمنذ الستينيات، عندما بدأت بواكير مطالعاتي الثقافية والتي كانت تهتم أساسا بقراءة الروايات خصوصا العالمية منها العائدة إلى ليو تولستوي ومكسيم غوركي وفيودور دوستويفسكي... والروايات العربية لنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم، ولكن بعد انضمامي لاتحاد الطلبة العام عام 1967، بدأت أطلع على صحيفة الحزب السرية وأساهم في توزيعها على الطلبة الاتحاديين؛ لأني كنت سكرتيرا للاتحاد في ثانوية مدينة الزبير، وكانت الثانوية الوحيدة في وقتها. وفي زمن عبد الرحمن عارف كان العمل السياسي والطلابي السري لا يتسم نسيبا بالخطورة. ومنذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات عندما صدرت مجلة "الثقافة الجديدة" عام 1969 و"الفكر الجديد" الأسبوعية عام 1972 و"طريق الشعب" العلنية عام 1973 كنت مواظبا على اقتنائها وقراءة ما ينشر فيها، من موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية وفلسفية وأدب وفن وتحقيقات متنوعة وغيرها من الموضوعات التي وسعت من ثقافتي وحفزتني على قراءة المزيد من الكتب خصوصا ذات التوجه الماركسي. وعندما غادرت العراق عام 1978 بعد أن اشتدت وطأة القمع ضد حزبنا، كان لي اشتراك ثابت بطريق الشعب مع مكتبة الباحسين في مدينة الزبير، حيث كان صاحبها يحتفظ لي بنسخة حتى عندما انشغل ولا أستطيع اقتنائها في اليوم نفسه.
وبعد أن انتقلت إلى المغرب عام 1978، كانت تصلنا "طريق الشعب" ومجلة "الثقافة الجديدة" عبر التنظيم بأوقات متباعدة، ولأن الأخيرة تأتي بنسخة واحدة، كنت أقوم باستنساخها في أحد المكاتب لتوزع على الرفاق. وبعد انتقالي إلى هنغاريا عام 1984، أصبحت مواظبتي على قراءة المطبوعين أكثر انتظاما بحكم أن منظمة هنغاريا كانت من المنظمات الكبيرة وتصلها منشورات الحزب باستمرار. وبعد انتقالي إلى ليبيا عام 1989 أصبح اطلاعي على صحافة الحزب أقل، كونها تصل بأوقات متباعدة بسبب الصعوبات التي كانت تحيط بإرسال هكذا مطبوعات إلى ليبيا في تلك الفترة. وبعد الإقامة في هولندا منذ عام 1996، أصبحت مواظبا على نحو منتظم على قراءة "طريق الشعب" ومجلة "رسالة العراق" و"الثقافة الجديدة" كونها تصل بشكل منتظم إلى هولندا.
على الرغم من نشري بحوث ودراسات أكاديمية، لكن كانت تتملكني رغبة قوية للنشر في "الثقافة الجديدة"، كونها مجلة عريقة وتحمل شعارا معبرا "فكر علمي... ثقافة تقدمية"، وغنية بموضوعاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن كان وجودي في ليبيا يُصعّب من مراسلة المجلة. وفي هولندا نشرت أولا مرة في مجلة "رسالة العراق" الشهرية عام 1998، علما أنشر منذ فترة بطريق الشعب على نحو متباعد خصوصا في صفحة أفكار؛ لأني أميل لنشر المقالات ذات المنهج الأكاديمي التي لا تستوعبها الصحيفة. وبدأت محاولتي الأولى للنشر في الثقافة الجديدة عام 1998 أو عام 1999، عندما كان طيب الذكر الرفيق الدكتور غانم حمدون رئيسا للتحرير، وقد طلب مني إجراء تعديلات على المقالة التي أرسلتها وتكثيفها، ولا أنسي قوله لي عبر التلفون، عندما تنشر في المجلات العامة أول مرة عليك أن تنزل بمقالة قوية. لذا ارتأيت تأجل المقالة المرسلة إلى وقت آخر. وأول مرة نُشرت مداخلة لي في عدد المجلة 295، تموز-آب 2000، عندما شاركت في الندوة التي نظمتها المجلة بشأن الإسلام السياسي والدولة في مدينة روتردام في هولندا. وكان رئيس التحرير في وقته الرفيق رائد فهمي، وممن شاركوا في الندوة: كامل شياع، حامد نصر أبو زيد، ياسين النصير، فالح عبد الجبار، كاوه محمود، جاسم المطير، فالح مهدي، عادل عبد المهدي، حسين عبد علي، علي إبراهيم، عبد السلام حسن، سليم عبد الأمير حمدان، سامر إسماعيل، وثاب السعدي، فارس الماشطة، اسكندر سلمان، مجيد خليل إبراهيم، سلمان شمة، وعذرا لمن لم تسعفني الذاكرة لتذكر أسمائهم. ونُشرت مساهمات الندوة في عددين. وأرسلت مقالة جديدة بعنوان "هجرة العراقيين وتأثيراتها على البنية السكانية" إلى المجلة عام 2002، وكم كانت سعادتي غامرة عندما أخبرني الدكتور غانم حمدون تلفونيا بأن المقالة نُشرت في العدد المزدوج 307-308، تموز- كانون الأول 2002، وبما انه صادف سقوط النظام عام 2003، قال نتوقع أن يوزع العدد على نطاق واسع في الوطن، وهذا ما حدث فعلا، فعندما عدت إلى العراق أول مرة في آذار عام 2004 أخبرني العديد من الرفاق والأصدقاء أنهم اطلعوا على العدد. وبالمناسبة فإن المقالة الأولى التي أرسلتها للمجلة وأجلتها عدت لها بعد أكثر من عشرين عاما، وطورتها ووسعتها وغيرت عنوانها، وفق رؤية ومنهجية جديدتين، مستفيدا من الملاحظات القيمة السابقة للدكتور غانم حمدون، وبما أنها باتت دراسة مطولة لا تستوعبها الثقافة الجديدة نشرتها في مجلة عُمران الأكاديمية المتخصصة بالعلوم الاجتماعية بعنوان "نمو سكان المناطق الحضرية في العراق وآثاره الاجتماعية والاقتصادية "، العدد 41، المجلد 11، صيف 2022.
في عام 2022، بعد إعادة تشكيل هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة ومجلس تحريرها، والتي ظلت بدون هيئة تحرير للأسف طيلة 11 سنة، تشرفت بأن جرى اختياري عضوا في هيئة التحرير والتي تسلم الرفيق الدكتور صالح ياسر رئاسة تحريرها منذ عام 2007. وأعمل حاليا مع زملائي الأعزاء في هيئة التحرير كي نعزز من القيمة المعرفية الرصينة لما يُنشر في المجلة في أبوابها الثابتة المختلفة: المقالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلمية، وقراءات في كتب، وباب نصوص قديمة، وباب ترجمات، وحوار مع شخصية فكرية، وباب أدب وفن.
تحية اجلال واكبار للصحافة الشيوعية في عيدها التسعين