1
عندما تكتب عن الصحافة الشيوعية، يجب ان تضع في حسابك أنك تكتب عن رؤية وطنية للكيفية التي يكون عليها العراق، وهذه الرؤية لا تأتي لمجرد رغبات أفراد اختاروا طريقًا نضالية للتعبير عنها. بل تأتي من تضافر حزمة من الممكنات المختلفة لإنجاز هذا المشروع، ومن بين هذه الرؤية وجود شخصيات تخطط لما ينشر في صحافة الحزب اليومية، وتؤمن أن هذا العمل هو في صلب الموقف الوطني. وأن ما ينشر في صحافة الحزب ومجلاته، وما ينشر في اجتماعات أعضائه من محاضر، وما يفكر به كادر التحرير المتقدم من خطط للكتابة في الاعداد المقبلة، هو أن يكون العمل مؤسساتيا ومنظما. فالتخطيط والتنظيم والمتابعة والانجاز، من مفردات المدينة، ولذلك ارتبطت صحافة الحزب الشيوعي بمدينة عراقية، بمعنى الفضاء الذي يحقق التأثير في القراء. يقودنا التفكير الأولي بوجود صحافة للحزب الشيوعي، إلى وجود مثل هذه الرؤية الواقعية والاجتماعية والفلسفية والثقافية، حتى لو لم يكن قد خطط لها، فوجود مدينة يعني وجود فضاء يؤثر في القراء. إن عملية تتجسد بمقالات تتناسب وحجم الصحيفة والمجلة والخطط الفكرية المقترحة، لا تتم إلا باقتران المواقف مع أوضاع المدينة، وقد كانت المدينة العراقية من أفضل الفضاءات للتجربة العملية لإنجاز مهمات الحزب وأفكاره، شخصيا لا ألغي القرية والأرياف، ولكن تأثيرها يبقى ثانويا إزاء ما تفرضه المدينة على الصحافة. وقبل هذا التخطيط ثمة مجموعة من الإجراءات تقوم بها خلايا الحزب لتدوين ما يرونه مهما في حياة المجتمع المديني من مطالب وأفكار واحتياجات وأمور تخص مفردات الحياة التي تؤكد خط الحزب الفكري ومواقفه، هذا بالعموم، ما كان يفكر الحزب به في مراحل وجوده العلني، فالكتابة عن احتياجات الناس؛ محادثة وحوار بين خصمين الحزب والمجتمع، يجتمعان معًا على حلبة الحياة اليومية كل منهما مسلح بأدواته: حاجات المجتمع بمواجهة رؤية الحزب لعلاجها.، وغالبًا ما يشكل هذا الصراع بين الخصمين طريقة للنقد العملي المباشر القائم على الأسئلة الإشكالية وعلى المعرفة الدقيقة بالموضوعات التي تشغل الطرفين، وعلى جهل المجتمع بآليات تشكل الموضوعات والكيفية التي تخص هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، قد تبدو أن هذه مهمة لا ترى، وليست من أولويات الصحفي، ولكن من تتبع مسار صحافة الحزب يجد أن هذه المهمة تنزل يوميا بتعليمات إلى هيئة التحرير لإنجازها على مراحل وتكليف المعنيين بذلك، وهذا ما شهدنا في العمل في طريق الشعب في السبعينيات عندما كان المرحوم أبو كاطع يباشرنا يوميا بالخطة التفصيلية لما ينشر في الجريدة على مدى شهرين أو أكثر، بحيث تشعر أن خطوات العمل مدونة وعلينا التنفيذ الحر لها. وللنكتة كان أبو كاطع رحمه الله، يضحك عندما يباشرنا بالعمل، هذا جزء من الأتمتة، وكانت المفردة قد بدأت تدخل مجال التداول العملي، نعم الأتمتة التي تقود العمل وتضعه في خطط منتظمة كما لو كانت الصحيفة مؤسسة إنتاجية مسؤولة. لا شك أننا نتصور أن حلبة الصراع بين كيانين فقط، بل يمكن أن يقف خلف الصحفي والصحيفة أجيال من الأعمار والشخصيات المختلفة الانتماءات والآراء والأفكار، وأن يقف مع الخصم الثاني مؤسسات الحكومة وأجهزتها وأذرعها العسكرية والأمنية، ونظرة على الخصمين ترتسم صورة أولية أن الشعب يقف وراء الصحافة الوطنية، وأن السلطة بكل مؤسساتها وأسوارها وعدتها وهيئاتها تقف مع الطرف الثاني، وأول خطوة على الصحفي ان يكون ذا ثقافة تمكنه من إدارة الحوار، والوصول بالخصم إلى الهزيمة أو الموافقة على ما يطرح.
2
خلال التسعين سنة التي شكلت عمرًا زمنيًا للصحافة الشيوعية في العراق، وخرَّجت اجيالًا من الصحفيين المرموقين، الذين كتبوا ووقفوا وناضلوا وعملوا من أجل أن تكون الصحافة الشيوعية جزءًا من الحوار الوطني والمحادثة بين الفرقاء، وليس غايتها التعريض بالأشخاص أو بمواقف الآخرين، دون وعي وفهم وقناعة ونماذج من الحقائق. نعم كانت هذه جزءا من التعليمات اليومية التي تباشر العاملين فالكتابة مسؤولية أن يكون الموقف مدونا، ويعني التدوين وثيقة ،وأن ما يطرح في الصحافة الشيوعية يختلف جملة وتفصيلا عمّا يطرح في غيرها، لذلك اكتسبت الصحافة الشيوعية عبر معيار وسياسة النقد، أهمية استثنائية في حياة العراق، بدليل حضورها الدائم والمستمر لصحافة الشيوعي حتى لو جرى منعها او محاصرتها او تحجيمها، فهي ليست أوراقًا تملأ بالمواقف والآراء، بل هي سجل، ومعنى السجل أن يكون شفاهيًا ومكتوبًا، وان اللغة المستعملة ليست اللغة العربية الموزونة والمقفاة، بل لغة الكلام اليومي المنضبط القواعد والسياقات، والقادر على التعبير بموجز الكلمات، لذلك لم تنجح كل وسائل القمع من تحجيم صوت الكلام الشيوعي، وأصبحت جلسات المقاهي ميدانا للحديث عمّا ينشر في الصحافة الشيوعية، وهو التمدد الذي أولاه الحزب اهتماما عندما كان يوزع الصحافة في هوامش المدن. فالصحافة الشيوعية ليست بأوراقها المكتوبة بل بلسانها الشعبي الذي يعبر به رجل الشارع والروائي والشاعر والممثل والبائع والمشتري والمرأة في احتياجاتها، هذه اللغة الشعبية لغة الكلام ليست شرطًا أن تكتب بل هي تيار من المشاركة بين مناضلين لا يلتقون ولكنهم يشخصون الظاهرة ويتفاعلون بأسئلة معها، لقد تعلم الصحفيون العراقيون من خلال صحافة الحزب الشيوعي فن مباشرة الحديث مع الخصم، بدليل ما ينشر، ومعنى أن تكون مثقفًا وذا موقف وطني حتى لو لم تكن منتميًا، تكون حججك في النقد منسجمة وما يطرحه الحزب. وهذا هو سر بقاء الصحافة الشيوعية حية ومطلوبة حتى لو قل كادرها، وقلت كتاباتهم، وقل إصدارها، فلسان المجتمع العام يوفر الاشكال التعبيرية التي ينشدها الحزب في توجهاته النقدية عن اية ظاهرة اجتماعية. ومن ينصت لنبض الشارع في أوقات المراحل التي لم تصدر فيها الصحافة الشيوعية علانية، يجد الناس بمختلف أصنافهم واهتماماتهم تتكفل في انتاج الكلام المعبر عن الكيفية التي ينتقدون بها الأوضاع الشاذة، ولذلك أعزو انتشار نشاط النقد في العراق إلى الكتابة النقدية في صحافة الحزب، ومن يراجع الصحافة العراقية لا يجد هذا الخط النقدي ضمن توجهاتها. قد يعود جانب من هذا الصوت النقدي إلى شعبية الصوت الاجتماعي الناقد، وقد يعود إلى انتشار ما تطرحه صحافة الحزب، هذا الصوت هو العجينة المخمرة بالتجارب الشخصية والعامة نتيجة تراكم الأفكار والحالات التي لم تعالج، ودائمًا ما تنتج هذه الحالات صوتها ولغتها المتميزتين، وقد لمسنا ذلك وما زلنا نلمسه عندما تتحدث بصدق ووطنية عن أي مشكلة أو فساد أو تقاعس أو خلل، أو محسوبية أو سرقة، يقال لك أنت شيوعي، واعتقد أن الآلاف قد عرفوا من لسانهم اليومي قبل أن يعرفوا عن طريق المخبرين. فصحافة الحزب الشيوعي المعبرة عن أفكاره وآرائه ليست ما يكتبه العاملون من الصحفيين فيها، بل ما يفكر به الشارع، وما تتكلم به الناس في دوائرهم ومحلاتهم وبيوتهم، هذه كانت مهمة مختفية في الممارسة الثقافية.
3
تسعون سنة ليست بالعمر القصير، للصحافة الشيوعية والوطنية، وعلينا عندما نتحدث عن الصحافة الشيوعية وحدها، نكون مقصرين بحق الصحافة الوطنية للفئات الاجتماعية الأخرى، ولن أعددها الآن خشية أن انسى صحيفة أو مجلة، ولكني أشير، وبقناعة، أنَّها تشكل اكثر من 75 بالمائة من الصحافة العراقية عبر تاريخها، إضافة إلى أن الصحافة الأخرى ليست كلها رجعية، بل كانت صحافة شخصيات وجماعات وهي صحافة مرحلية، ومن يراجع موسوعة المرحوم فائق بطي الصحفية يجد أن ما أقول أقل مما دونه الأستاذ في أجزائها، لأصل إلى نقطة جوهرية، هي أنَّ قلب الحزب الشيوعي قد يصاب بخلل وتعطيل بعض شرايينه بالعطب، ويتطلب الأمر اجراء عمليات ترميم وتجديد، إلا أن صحافة الحزب التي هي انعكاس عملي لجسده في صحته ومرضه، لم تتخل يومًا عن مهمتها الوطنية، في إسناد الصحافة الوطنية الأخرى. وهذا يعني حتى خلال فترات انقطاع صحافة الحزب كان التفكير بالموقف الوطني شغل من انتمى للحزب ومن كتب ومن فكر، لذلك يكون الاحتفال ليس للصحفيين والمنتمين للحزب فقط، بقدر ما هو لعموم المثقفين الذين وجدوا في صحافة الحزب مؤسسات لنشر انتاجهم وميدانا عمليا للحوار مع الآخرين، ولمتابعة إصدارات الأدباء وأعمال الرسامين وفناني المسرح والموسيقيين وغيرهم، حتى وصل الأمر لتتبع حياتهم المهنية والشخصية وأنشطتهم الاجتماعية، ومن يكتب عن ميادين اشتغال المثقفين العراقيين في مجال العلاقات يعجز عن الإلمام بأسئلتها ونشاطها، فالسلطات الحاكمة كانت تهتم بمثل هذا النشاط الثانوي، ولذلك كانت متابعة جلساتهم واحاديث ولقاءاتهم جزءا من مهماتها الرقابية. وقد خصصت الحكومات جماعات لمتابعة ما ينشر، وما يتحدث به الصحفيون. فالحزب ليس مسؤولا عن ثقافة أعضائه فقط، بل عن الثقافة العراقية كلها، ولولا ما يقال لتبنى الحزب نشر مقالات وإنتاج المغايرين لسياسته اعتمادا على نظرته الوطنية (مهما اختلفنا فالكتابة الصادقة والدقيقة من أي مصدر كان، هي في صلب رؤيتنا الماركسية)، الرؤية المنفتحة على الإنتاج الثقافي حتى لو كان مغايرًا، شرط ان يكون معتمدًا على حروفه الوطنية، فالحزب لم يقف بوجه أشكال التعبير، حيث كانت الأشكال التعبيرية جزءا من الحريات الشخصية عندما يفكر المثقف والصحفي بأشكال مختلفة حتى لتوجهاته توجهاته الفكرية دون ان يكون ذلك خرقًا لمنظومة الأعراف الثقافية. كان الشاعر الكبير سعدي يوسف يتعامل مع الشعراء الشباب بحسه النقدي فيقتطع ما يراه شعرا من قصائد طوال ليس فيها شعر. ومن يتتبع نتاجات الشعراء والقصاصين والمقاليين والكتابات الذاتية لم يجد لها انتشارا إلا من خلال صحافة الزمت نفسها بتبني خط وطني لا يجامل ولا يسترخي لأي شكل فني متميز، او لتبني أي اتجاه فردي، إن من يتتبع خط الحزب الثقافي يجده بؤرة لتجمع المختلفين، في الأشكال التعبيرية، المتفقين على تطوير انتاجهم، المتمردين على النماذج التقليدية، المتطلعين لتضمين انتاجهم رؤى فكرية جديدة حتى لو لم يكونوا منتمين او أصدقاء، فالصحافة الشيوعية ليست لها بابان يدخل المنتمون منها إليها، ويدخل غير المنتمين من الباب الثاني، باب واحد مفتوح على مصراعيه، ما عشته وعملت به مع رفق مخلصين كانت كل الأبواب أشرعة للهواء الوطني.
4
سيطول الحديث عن دور الصحافة الشيوعية، وقد لمست تأثيرها في ترشيد الأدب والثقافة، وعندما تتغلغل في بنية الثقافة العراقية، تشير وبوضوح إلى أنها احتضنت وتبنت تيارات الحداثة في ميادين الشعر والقصة والتشكيل والمسرح والصحافة، ولكل من عمل فيها، يشعر اليوم أنها كانت من أغنى الفترات وأكثرها ارتباطا بمشكلات العراق. أقول سيطول الحديث عن هذا الموضوع، وأن أجيال القراء اليوم ليسوا على اطلاع او بينة من ما كانت الصحافة في سنواتها الطويلة تعمله. ولذلك لا يكون الاحتفال مناسبة بل يكون جزءا من مهمات المسؤولين عن الثقافة الوطنية.