سعدي يوسف
في أول اجتماع لكادر جريدة (طريق الشعب) كان الشاعر سعدي يوسف حاضراً. شعرنا بالفخر إنه سيكون معنا. قبيل نهاية الاجتماع قال شيئاً ليضيف النقد كمبدأ ينبغي أن نعتمده لتعزير المسيرة. منذ البداية أخذ سعدي على عاتقه تقييم الشعر الذي صار يتدفق على الجريدة من شبان بدأوا يصعدون أول درجات السلم، لكنهم سيحتلون لاحقاً مواقعهم في الخارطة الشعرية العراقية. أراد سعدي أن يثبت تقاليد مدرسة عراقية تعتمد الواقع المرئي كارضية انطلاق. ورغم شيوع قصيدة النثر واللعب على اللغة، اعتمد سعدي الواقع المرئي والمكان المحدد قاعدةً انطلاق للحساسية الشعرية وأراد أن يثبتها كقاعدة. ياتي الى الجريدة بهدوء ويصعد ليقرأ القصائد بانهماكً. بحساسيته وخبرته يعرف الذي سيصير شاعراً حتى ولو من بيت واحد. دون جدالات ولا اعتراضات. كان سعدي من اكثرنا ريبة في الجبهة مع البعث. قصائده ملغّمةً بالوهواس، لذلكً تقرأها هيئةً التحرير بحذر مشدّد بعد أن قال طارق عزيز في واحد من اجتماعات الجبهة رداً على زكي خيري :
-… نعم، انتم تقيّمون إيجابياتنا في المقال الافتتاحي، لكنكم تشككون بنا في القصائد الملغمة!
اعتمادا على هذا الوسواس صارت هيئة التحرير تقرأ قصائد سعدي بحذر رقيب مضاعف. حين تستعصي الرموز على التفكيك والإحالة يأخذ عبد الرزاق الصافي قصيدة سعدي إلى يوسف الصائغ و يضعها أمامه، يقرأها يوسف ثم يعطي رأيه:
-نعم، النسر الجريح المقصود به الحزب.
.. وهكذا يتأكد الشك!
بين سعدي ويوسف الصائغ علاقةً ملتبسةً.. كلاهما شاعر مهم وشيوعي مرّ بتجربة السجن، وكلاهما جرب التعذيب في فترة الانقلاب البعثي الأول عام ١٩٦٣. لكني لم أرهما في جلسة حميمة معاً، ولا حتى في حديث عابر. سعدي يعتبر يوسف شاعراً عاطفياً يعتمد على الحس ولا يستند على ارضية راسخة في علاقته بتيارات الشعر العالمي. لم أسمع رأي يوسف بسعدي، لكنه يمرّر بين فترة وأخرى موقف سعدي عام ١٩٦٣. يوسف الصائغ كان أكثر حيوية وتنوعاً، شاعر (روائي، رسام، وكاتب عمود صحفي). في الجريدة يتنقل بحيوية بين الأقسام وله دور في نقد ما ينشر ودائما تعرض عليه افتتاحية الجريدة للتأكد من سلامة اللغة وتوازن الموقف قبل نشرها. سعدي ياتي للجريدة مثل زائر خجول يبدو انعزالياً، نكتشف أدبه ولطافته خلال الحديث. موقف الإثنين من الجبهة مع البعث كان مختلفاً. سعدي استقبل الجبهة بقصيدةً (تحت جدارية فايق حسن). ذهب في الفجر الباكر إلى ساحة الطيران، دورة ثانية، ثم ثالثة ثم توقف أمام الجدارية ليبدأ من الجدارية ذاتها التي أطلق الانقلابيون عليها الرصاص ثم مسحت حماماتها بالصبغ بعد انقلاب ١٩٦٣. لم يكن مبتهجا بإعلان الجبهة، إنما أثار الشكوك:
تطير الحمامات في ساحة الطيران.البنادق تتبعها،
وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا
في الرصيف يبيعون أذرعهم.
يقول المقاول جئنا لنبقى , تقول الحمامة هل قال حقا
يقول النقابي ان السواعد ابقى
…يا بلاد البنادق
إن الحمامات مذبوحة، والجدار الذي قد بنيناه بيتا وغصنا،
ينز دما أسودا، ويهز يدا مثقلة.
... نحن كنا صغارا... أقمنا جدارا ونمنا على مضض،
وطني، زهرة للقتيل، وأخرى
لطفل القتيل، وثالثة للمقيمين تحت الجدار.
يوسف على خلافه، اكثر انسجاماً مع موقف الحزب، أخذ الجبهة كخيار مستقبلي وطبق ذلك عملياً بمعرض رسم مشترك مع (شفيق الكمالي) وديوان شعر مشترك مع (شاذل طاقه). كنت أكثر انسجاما مع يوسف. يقرأ ما اكتب ويريني ما يكتبه، لكني أكثر احتراماً لسعدي، اصغي له باهتمام في المرات القليلة التي يتحدّث بصوت خافت.
رشدي العامل
بين سعدي يوسف و يوسف الصائغ يقع رشدي العامل. فهو من نفس الجيل الذي يقع بين رواد الخمسينات و الستينات، وانضمّ معهما إلى (جماعة المرفأ). من الساعة التاسعة صباحاً ينكبّ رشدي على كتابةً مقاله السياسي اليومي. يكتب على نفس واحد دون أن يرفع راسه. قريبا من الساعة الواحدة تبدأ دودة الكحول تنبش في داخله. يحاول القيادي الحزبي (حميد بخش)، بما عرف عنه من حزم، إبقاء رشدي في جوّ العمل الجدي داخل القسم، لكن هيهات لان بار (عشتار) بجوه المبرد في صيف بغداد الجهنمي، وقناني البيرة العرقانة من البرد المثلج تستولي على خياله الكحولي. ودائما يجد رشدي المناضل الديمقراطي عبد المجيد الونداوي ينتظره هناك. مرة واحدة كنت رفيقه في جلسة الظهيرةً التي كانت مدخلا لقبول صداقتي. حين تصعد الغيمة الباردة يتدفق رشدي قصصاً غنيّة عن ابناء جيله، سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، يوسف الصائغ نزار عباس و حسين مردان. يعرفهم دون ضغائن ولا تملّق، ولكل واحد منهم حكاية معه. لم يفارق رشدي الحزب حتى في أحلك الظروف. فصل من الدراسة في شبابه المبكر وأعتقل ثم نفي إلى مصر وعاد إلى العمل في جريدة (اتحاد الشعب) عام ١٩٥٨. قدم حياته للحزب و لم يحصل على "أية مكافأة" منه. وقد روى لنا كيف أن الحزب كلفه بإيصال دعوة للشاعر (حسين مردان) للمشاركة في مهرجان الشباب. استلم حسين مردان الدعوة بفرح وسأله:
-و أنت؟ هل ستأتي معنا؟
-لا، لست مدعوّاً!
-شفت، لم تسمع نصيحتى. قلت لك إبق مستقلّاً، سيدللوك!
رواها رشدي دون تشك، إنما من باب المزاح.
لم يتوقف عن الإنتاج، كان شاعراً بجسده النحيل، بأصابع يده الدقيقة وهو يكتب القصيدة في الهواء، ببشرته وقد شفّ جلده، بخصلة الشعر الفالتة المدلاة على جبينه، بإدمانه وهو يقرأ الشعر أو يكتبه…، لم يفارق رشدي الحزب ولم يفارق "الرؤيا الرومانسية في تجربته الشعرية الخمسينية، … هي رومانسية ثورية، وبشكل اكثر دقة رومانسية تستلهم روح الحداثة الشعرية الخمسينية التي أطلقتها تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي ومحمود البريكان وبلند الحيدري …". وأنا هنا استعير تقييمات الناقد فاضل ثامر لشعر رشدي العامل. ما يجذبني في شعره التلقائيةً الصافيةً أكثر من الصنعة:
ماذا يفعل مايكوفسكي؟
يبكي، يبكي يبكي...
يوسف الصائغ
في فترةً الصمت السياسي بدأ يوسف الصائغ ينشر في الجريدة (مذكرات طالبة ثانوية). مثل صديقه (مظفر النواب) يوسف بارع في تلبس شخصية المرأة في فترة عصيبة يسودها عنف السلطة الذكوري. المرأة التي اختارها شابة تبدو محايدة غير منتمية لحزب، لكنها منتمية للحياة بحساسية غير عادية. في الأيام التي أعدم فيها الشيوعيون رأت طالبته مشهداً مرعباً.. شاحنة مسرعة، هي السلطة باندفاعتها دهست زميلات لها ومضت دون أن تتوقف او تلتفت للوراء. صوّر يوسف الفاجعة بتفاصيلها المجهرية.. اللحم المهروس والدم الذي انطشّ على الإسفلت واليد التي بقيت ترتجف حتى سكنت. أراد أن يعبّر عن إحساسنا بالفاجعة فاختار حادثا رمزيا من خياله ومرر الفكرة. نزل إلينا من الطابق الأعلى وتنفس وهو يبشرنا بأن كلمته (مرت) بموافقة هيئة التحرير على النشر.
مصادرةً عدد الجريدة رفعت الحاجز الورقي بيننا وبين الناس. علينا أن نخبرهم لماذا. يوسف الصايغ خبير بالتحايل على الممنوعات. انهمك بقطع المقال الذي منعت بسببه الجريدة. جمع حزمة من المقالات وخبأها في جريدة رسمية على طريقة المنشورات السرية و قال لي تعال لنوزعها! شحنني بالحماسة فخرجت معه وقلبي ينبض بسرعة. أنا مهيأ للتحدي. التقينا بمجموعة من الفنانين التشكيليين وراح يوسف يحدثهم عن الحملة والإعدامات وما يشكله ذلك من مخاطر على الحياة العامة" لا أحد سينجو من الحملة، تبدأ بنا وستشمل الجميع". أتذكر أن الجميع أصغوا له باهتمام، عيونهم متسعة وأفواههم مغلقة بلا تعليق. النحات (خالد الرحال) قاطع يوسف و قَلَب َالموضوع بالحديث عن ميدالية صمّمها بطلب من القيادة لمؤتمر عدم الانحياز الذي يفترض أن يعقد في بغداد. نهره يوسف بحدة:
-أنت لا تريد أن تسمع؟ً
وا فلتت من فمه دمدمة:
-غبي و تتغابى!
أحببت حماسة يوسف وغضبه وتلبستهما. علاقتي بيوسف تتوطد في جو الأزمة. يأخذني كل يوم بسيارته إلى منطقة بعيدة على النهر لنرخي أعصابنا ونتحدث، وفي الحقيقة يتحدث هو وأنا أصغي كأنني أسمع صوتي الداخلي. خبرة يوسف بالسجن والتعذيب طويلة وعميقة، وأنا ما زلت خام. مع ذلك أنجزت رواية تحت عنوان (نفق إلى الشمس) مبنية على حوارات مع القياديين (آرا خاشادور) و عمر علي الشيخ ( ابو فاروق) حول حفر نفق للهروب الجماعي من سجن الكوت. قرأ يوسف الرواية في يوم واحد وأعادها لي صباح اليوم الثاني مع ملاحظات بالأحمر ما زلت أحتفظ بها. يوسف شغوف جدا بتصوير ترددات المناضل، وهو تحت التعذيب، بين الصمود والانهيار. في روايته المدهشة (المسافةً) مناضلان، يتواجهان في غرفة التعذيب، أحدهما يعذّب رفيقه السابق ويتمنى في نفس الوقت أن يجتاز (مسافة) الألم ويصّمد حتى النهاية. وفي رواية اللعبة زوج أدمن على إغراء زوجته من خلال مكالمات تليفونية، متصلة ومتصاعدة يريد أن يختبر صبرها على الصمود. الصمود والخيانةً عند يوسف متداخلان بمقدار ما هما متعارضان مثل الشجاعة والخوف. يوسف عاشهما معاً خلال فترات سجنه الطويلة ومن خلال علاقته مع القائد الشيوعي السابق (عدنان جلميران) الذي أدلى باعترافات تلفزيونية طويلة خلال مجازر ١٩٦٣. كلاهما من أصل موصلي وتربطهما رفقة وعلاقة قرابة غابت عن بالي. قال لي يوسف إن عدنان تمنى أن يخوض تجربة التعذيب مرة ثانية وتراهن مع رفاقه ومع نفسه على أنه سيصمد، إذا منح فرصة ثانية. في أيام الجريدة الأخيرة صار يوسف وسيطاً بين القيادة في الطابق الأول وبيننا نحن المتذمرين في الطابق الأسفل. ينزل متسللاً و يهمس لنا بالأسرار التي يسمعها فوق ويصعد لينقل للقيادة تذمرنا من هذا الصمت المذلّ. كنا نعتقد أن من الأفضل للجريدة أن تتوقف بدلا من أن تصدر دون أن تقول شيئاً.