على مدار أكثر من قرن ونصف، شكّلت الماركسية إطاراً نظرياً وعملياً لتحليل جذور اضطهاد المرأة، ورؤية تحررها جزءاً لا يتجزأ من مشروع تحرر الإنسان. فمنذ صدور البيان الشيوعي عام 1848، فتحت الماركسية الباب لقراءة متقدمة للعلاقات التمييزية، بوصفها مرتبطة عضوياً بالبنية الطبقية وأنماط الإنتاج.
لم يكن ماركس وإنجلز يريان في قضايا المرأة مجرّد مطالب حقوقية جزئية، بل عنصراً مركزياً في تفكيك المجتمع البرجوازي. ففي كتاب العائلة المقدسة، يستحضر ماركس مقولة شارل فورييه: "يمكن قياس مدى تحرر المجتمع من خلال مدى تحرر المرأة"، ليؤسس على أساسها نقداً جذرياً للأسرة باعتبارها بنية أيديولوجية تنتج القمع التمييزي وتعيد إنتاج التراتبية الطبقية. فالأسرة، في هذا التصور مؤسسة تخدم النظام الاقتصادي السائد. وانعكست هذه الرؤية في التاريخ السياسي للماركسيين، ففي ثورات 1848 الأوروبية، لم تتأخر النساء عن المشاركة في التظاهرات وبناء المتاريس، بل أسّسن منظمات نسائية رفعت شعارات واضحة للمساواة. وفي كومونة باريس عام 1871، خاضت النساء واحدة من أجرأ تجارب التنظيم العمالي، حيث شاركن في القيادة، والقتال، والتشريع، وأسسن نماذج أولية للديمقراطية النسوية.
ومن قلب هذا المسار، برزت أسماء نسوية ماركسية كثيرة، غيّرت وجه الفكر الثوري.
وتأتي روزا لوكسمبورغ في الطليعة، كواحدة من أبرز المفكرات في تاريخ الحركة الاشتراكية. لم تُسهم فقط في تطوير النظرية الاقتصادية، بل دافعت عن ثورة واعية وديمقراطية تقطع مع الإصلاحية، وتضع تحرر الإنسان هدفاً نهائيًا.
لوكسمبورغ كتبت، ناضلت، سجنت، ثم اغتيلت، لتتحول إلى رمز للثورة والفكر الحر، دون أن تُختزل في قوالب نسوية ضيقة، بل ظلت صوتًا نسويًا ماركسيًا يؤمن بالتحول البنيوي لا التجميلي، كما اسهمت إلى جانبها ألكسندرا كولونتاي في إعادة تعريف مفاهيم الحب والزواج، والعمل من منظور اشتراكي، بينما حملت كلارا زيتكن راية التعليم والتنظيم النقابي للنساء، وأطلقت مبادرة الاحتفال بـ "يوم المرأة العالمي" عام 1910. أما في زمننا فقد أكملت أنجيلا ديفيس، وسيلفيا فيديريتشي، وغيرهن من المفكرات هذا المسار الذي بربط قضايا النساء بالعرق، والاستعمار، والنيوليبرالية، مؤكّدات أن النضال النسوي لا ينفصل عن الصراع الطبقي.
وما تزال هذه الأطروحات تجد صداها في الحركات النسوية الجذرية اليوم والتي تدرك أن التمييز لا يمكن فصله عن نظام اقتصادي يُراكم الربح على حساب الجسد الأنثوي والعمل غير المرئي. وفي ظل تصاعد الخطابات الرجعية التي تكرّس أدواراً تقليدية وتعيد إنتاج الهيمنة، يبقى الفكر الماركسي رافداً تحليلياً وميدانياً لفهم جذور الاضطهاد والعمل على تغييره. إن تحرر المرأة، لا يُقاس بعدد النساء في المناصب، بل بمدى قدرتنا على تفكيك النظام الذي يُنتج التبعية، ويُخضع الحياة الإنسانية لمعايير السوق. وهذا ما يجعل من الماركسية اليوم، رغم التحولات، خزاناً حياً للتفكير في التحرر بوصفه قضية شاملة، تتجاوز التمييز لتطال معنى العدالة نفسه.
واليوم إذ نحتفي بعيد الصحافة الشيوعية العراقية ال 90, نحيّي جميع النساء العاملات في مجال الصحافة والإعلام، لعملهن الدؤوب، وتحديهن للمخاطر والمصاعب الكبيرة التي تواجههن.