منذ ازمة الاقتصاد الأمريكي عام 2008، وسقوط نظام التسليف العقاري، وانكشاف المستور في أقساط السكن وفضائح النظام الصحي ابان انتشار كوفيد 19، لم تعد العافية لجسد الرأسمالية الأمريكية، وصارت تبارح أزمة وصولا إلى أخرى.
هروب الشركات الأمريكية
ان هروب الشركات الامريكية (وفقا لمبدأ حرية التجارة) إلى الخارج حمل معه الرأسمال المالي والرأسمال الصناعي في عملية مثيرة للجدل بين الاقتصاديين السياسيين الأمريكيين، ولم يكن الرئيس ريكان يهتم يومها بالاقتصاد قدر اهتمامه بمعاداة الشيوعية، وحرب النجوم، وعملية الهروب تلك أبقت الانتاج في الداخل الأمريكي مربكا ظهرت بوادره في عام. 1988 وعام 2016، تمثلت في أزمة السوق والركود، وما هروب الشركات الأمريكية في الثمانينيات إلى كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وغيرها من دول العالم الا نتيجة أزمة بنيوية أصابت النظام الرأسمالي، وعلى إثر قيام الثورة الصناعية في الصين بداية الثمانينيات انتقلت الشركات الأمريكية العملاقة إلى هذه الدولة الاشتراكية لتوفر عوامل الإنتاج، وعوامل تسهيله، وكنتيجة لارتفاع الضرائب الأمريكية في بلد المنشأ ، ونتيجة لارتفاع الاجور بالتالي إنتاج سلع باهظة الثمن ، يقابلها سلع مستوردة من الصين بذات المواصفات وبأسعار زهيدة منافسة ، جراء انخفاض الأجور في الصين وتوفر المواد الأولية على نطاق واسع، وانعدام الضرائب، وقلة التعرفة الكمركية على المواد الأولية او المواد المكملة المستوردة لصالح الانتاج .
الثوابت الرأسمالية والتجارة الحرة
يكتب ماركس في كتابه بؤس الفلسفة (دار اليقظة بيروت ص 210. /211). في معرض بحثه في التجارة الحرة وفي رده على برودون والاقتصاديين السياسيين يقول ، إن كل القوانين التي صاغها الاقتصاديون السياسيون من كويزني لريكاردو كانت تقوم على القضاء على كل عقبة كانت تقف أمام حرية التجارة ، وتثبيت هذه القوانين نسبيا لدى اعتناق التجارة الحرة، أول هذه القوانين هي المنافسة التي تخفض السلعة إلى أقل درجة من تكاليف الانتاج ، وهكذا فان أقل نسبة للأجور هي السعر الطبيعي للعمل، وما هو أقل نسبة للأجور قدر ما يحتاج لإنتاج الاشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها لمعيشة العامل، أي لكي يوضع في مركز يؤكد معيشته مهما كانت هذه المعيشة رديئة وعاطلة وتكفي لإبقاء ذريته ، ومهما كان بقاء هذه الذرية منحطا ، أي ان كل القوانين التي تصاغ كلها قوانين لتجارة حرة تأتي على مستقبل العامل أينما كان، وقال في البيان الشيوعي عام 1848 اسست البرجوازية تلك الحرية الوحيدة ، الغير مقبولة، حرية التجارة، التي صاغ قانونها مؤخرا الفيلسوف الرأسمالي الفرنسي، كولبرت ولوكاند. دعه يعمل دعه يمر، let him work let him pass بالإنكليزية ، واليوم جراء التراكم الرأسمالي وعدم استيعاب السوق الداخلية للدول الرأسمالية الرئيسية لمنتجات شركاتها، وارتفاع أسعارها جراء ارتفاع تكاليف الانتاج فيها، و ارتفاع أجور الأيدي العاملة ومنها ارتفاع الضرائب، فقد صارت الشركات بالذات الأمريكية تعبر الحدود القومية ، وهذا كما يكتب الدكتور محمد السيد سعيد في كتابه (الشركات عابرة القومية ص9 ) نتاج تنظيمي للقوانين الأساسية للتطور الرأسمالي في حقبته الراهنة ، وقد استمدت هذه القوانين ضرورة تدويل الانتاج الرأسمالي . ويستطرد يقول ، ويؤدي هذا التحول بالضرورة إلى تناقض رئيسي بين النطاق العالمي للتنظيم والتحكم في النشاط الاقتصادي ، والنطاق القومي باعتباره الشكل الرئيسي لتنظيم هيكل السياسة الدولية ، فالنطاق القومي ليس مجرد جزء من النطاق العالمي، بل أنه نمط لتنظيم الحياة والانشطة الاجتماعية بجوانبها المختلفة وتتميز جوهريا عن النطاق الدولي، وهكذا تراجع اليوم ترامب عنما بدأه غيره من الرؤساء، فلم تعد أمريكا تتحكم بإنتاج شركاتها في كوريا الجنوبية او تايلند، والاهم في الصين، فالشركات الأمريكية في الصين تنتج بأسعار منخفضة جدا ، لتوفر المواد الأولية الرخيصة ، وتوفر الأيدي العاملة الرخيصة والمستجيبة للظروف الانتاجية، وانعدام الضرائب، ويكتب في ص10من المصدر نفسه، فالشركات عابرة القومية تعمل في بيئة عالمية وقومية ليست من صنعها تماما، وليست بالضرورة موائمة لها تماما، بل هي تواجه في هذه البيئة عوامل ومصالح وقوى معاكسة ومعادية أحيانا، وما عليها إلا تستجيب لبيئتها الجديدة بعيدا عن أصولها القومية، وكذا حالها اليوم في الصين حيث ترفض العودة إلى الوطن الأم، لان تلك العودة هي الرجوع إلى الضرائب والرسوم، وسطوة أجر العامل الأمريكي .
إن ترامب بسياسته الطارئة على النظام الرأسمالي، يجعل من الولايات المتحدة تتعثر بثوابت ما استقر عليه الانتاج الرأسمالي، فلا الرسوم المرتفعة بقادرة على انقاذ أزمة الركود الاقتصادي أو بقادرة على سداد الديون، ولا أيضا بقادرة على اركاع دول العالم سيما كندا، الصين والاتحاد الاوربي، بل وقال الرئيس ترامب إن المباحثات مع كوريا الجنوبية واليابان صعبة. وان الصين ترفض التفاوض إلا وفقا لثوابتها.
إن تراجع الرئيس في الكثير من مواقفه ، خاصة ، ما يتعلق بالتعريفات ، جعل اقتصاد العالم يدور في فلك المباحثات، لا في فلك الانتاج، وانه صار اليوم يبحث عن البدائل، ومنها افتعال الحروب متراجعا عن منطلقاته الانتخابية املأ منه، كما تكتب بعض الصحف الامريكية، في تنمية الصناعات الحربية ، بعد تراجع صناعة السيارات الكهربائية في الداخل، وبعد تراجع الأداء الحكومي وتعثره بعد أخطاء (إيلون ماكس ) كل ذلك أدى إلى تراجع في الانتاج، وهو عامل آخر من عوامل تدخل الدولة كما يرى الخبراء في تفاصيل الاقتصاد وعدم تركه يعمل حرا في الداخل الأمريكي او في منفاه في دول العالم.