"الثقافة تنوع معرفي وابداعي، من هنا نُعنى بتقديم كل الثقافات المجاورة للأدب والفن والفكر.. وبهدف اغناء المثقف بالقوانين، نقدم هذه الدراسة القيمة للقاضي الاستاذ سالم روضان الموسوي، بوصفها على تماس بالنقد والقانون" المحرر الثقافي.
ان النقد كما عرفه فقه القانون والقضاء بانه (إبداء الرأي في أمر من الأمور أو عمل من الأعمال دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل، أي لا يمس بشرفه أو اعتباره)، والنقد له نطاق محدد لا يمكن تعديه والا انقلب الى جريمة قذف وسب بحق صاحب الرأي ومن الممكن ان يخضع للعقوبة التي تقررها القوانين العقابية، وهذا النطاق يحدده نوع العمل محل النقد حيث له مجالات عديدة منها النقد السياسي والتاريخي بل حتى على مستوى النقد الأدبي. ويقول طه حسين، ان النقد هو منهج فلسفي لا بد أن يتجرد الناقد من كل شيء وأن يستقبل النص المطلوب نقده وهو خالي الذهن مما سمعه عن هذا النص من قبل.
وفي النقد السياسي ان بعض من امتهن عمل التحليلات السياسية وانتقاد الحكام أو وزير ما في شؤون تتعلق بعمله، الا ان هذا النقد أو التعليق تضمن عبارات قد يراها البعض شائنة، مثال: انه وزير ضعيف أو انه وزير للأغنياء فقط ورجال الأعمال، أو انه يتعجل بيع الشركات الناجحة أو انه مسؤول عن أرواح الضحايا أو أن وزارته فاسدة أو يجب إقالته.
هذا النقد الذي وجه للمسؤول اذا كان متعلقا بأعمال وزارته ولم يلحق بشخصه، إلا بالقدر الذي يمس عمله وكان الغرض منه هو النقد، حتى ولو كان لاذعا أو به شطط أو حتى عبارات شائنة لا يعد جريمة، طالما أن الغرض منه إبراز وتوضيح هذه التصرفات للجمهور، وبشكل يستطيع أن يفهمها ويدرك أبعادها وحقيقتها، فلا عقاب عليه، ويترك الأمر لسلطة المحكمة التقديرية من ظروف وملابسات الدعوى، بل ان هذا النقد يسري حتى على الذين لا يشغلون وظائف عامة مثل المرشحين في الانتخابات ونحن على أبواب انتخابات برلمانية، وفي تطبيقات القضاء الفرنسي الذي قضى ببراءة صحفي من تهمة القذف على اعتبار إن العبارات التي تحوي قذفاً في حق احد المرشحين بإنها لم تنشر بغرض الانتقام أو الكراهية، وإنما بهدف إعلام الناخبين عن ماضي المرشح، وعلى وفق ما جاء في قرار الغرفة الجنائية في محكمة النقض الفرنسية صادر بتاريخ 28/6/2017 والذ جاء فيه تأكيد على أن النقد الموجه لمرشح في سياق حملة انتخابية أو نقاش عام حول قضية ذات مصلحة عامة فان هذا النقد يتمتع بحماية واسعة، وانه نقد مبرر لأنه يسعى لإعلام الناخبين بالمعلومات المتعلقة بالمرشحين، حتى لو كانت هذه المعلومات سلبية، طالما أنها تخدم المصلحة العامة الحقيقية .
ان مصدر هذا الحق (حق نقد الأداء الوظيفي) متوفر في عدد من الاتفاقيات والمواثيق والعهود الدولية والإقليمية، كما وجدت له مرجعية في التشريعات الوطنية (المحلية) وكانت له إشارات ضمنية في النصوص الدستورية والقانونية تحت عنوان (حرية التعبير، او حرية الرأي، وكذلك حرية المعتقد) ومنها ما ورد في المادة (36) من دستور العراق لعام 2005، التي تنص على ما يـأتي (تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب، اولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل. ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر. ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون). وفي المادة (42) من دستور العراق لعام 2005 التي تنص على ما يأتي (لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة).
بل وجدنا إن المشرع العراقي عد القذف الموجه إلى الموظف العمومي يكون بمثابة الفعل المباح، في حال توفر بعض الشروط التي تتطلبها المادة (433) من قانون العقوبات العراقي، ويشترط أن يكون متعلقا بشخص عام، ويتعلق بعمل من الأعمال المسندة إليه في وظيفته، والا كلف بإثبات الواقعة المنسوبة اليه وتقديم الدليل على ذلك، وبخلافه يعتبر مرتكبا لجريمة القذف التي تصل عقوبتها الى الحبس لمدة خمس سنوات.
وتشكل مواقع التواصل الاجتماعي الميدان الاوسع للنقد حيث اعتبرت هذه المواقع ظاهرة اجتماعية لها حضور وتأثير في مجمل نواحي الحياة الخاصة والعامة، وان كانت حديثة العهد نسبياً من حيث التكوين والتأثير، إلا انها أصبحت ظاهرة تكتسب كل يوم آفاقا جديدة وأصبحت قائمة الشعوب والمجتمعات التي استخدمته تطول وتكبر يوما بعد يوم، بل يرى البعض إننا في عصر الفيسبوك واعتبرت مواقع التواصل الاجتماعي ومنها (الفيسبوك) وسيلة من وسائل الإعلام، وتسمى بالإعلام الجديد أو البديل ( new media) فهي تعتبر مرحلة في انتقال أدوات الإعلام والاتصال من المؤسسات إلى الجمهور كونها مصدراً لرفد الوسائل التقليدية في الإعلام بالأخبار والمعلومات.
لكن هل الواقع الراهن يمنح الأشخاص ومنهم الإعلامي والمختص فرصة توجيه النقد الى الأداء الوظيفي؟
الجواب ليس بالمطلق نفياً او بالإيجاب، لأن القضاء المكلف بتوجيه الاتهام وفرض العقوبة على المتهم هو الذي يحدد الفعل هل هو ضمن نطاق النقد المباح ام انه تعدى ذلك الى الاعتداء على الشخص محل النقد، لذلك نجد هناك تفاوتا في الاحكام حسب كل قضية.
لكن لوحظ وجود مشترك بين جميع قضايا النقد الموجه الى الأداء الوظيفي في الفترة الأخيرة، وجود ميل نحو التغليظ والتشديد تجاه هكذا نوع من النقد، حيث صدرت عدة احكام قضائية اعتبرت ان هذا النقد يعد إهانة للسلطات، وكيفت الفعل على انه ينطبق واحكام المادة (226) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل التي جاء فيها (أولا: يعاقب بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى الطرق العلانية السلطات العامة التشريعية أو القضائية أو التنفيذية أو السلطات الإقليمية أو المحلية أو دوائر الدولة الرسمية أو شبه الرسمية. ثانيا: لا يعد إهانة وفقا لما ورد في البند ( أولاً ) أعلاه كل قول أو فعل يمارس في إطار حرية التعبير عن الرأي بحدودها الدستورية والقانونية أو حق نقد السلطات العامة بقصد تقويم الأداء أو إبداء المظلومية). والإهانة كما عرفها الفقه الجنائي بانها الاعتداء على شرف ومكانة المعتدى عليه.
وحيث ان القانون يسعى لحماية الأفراد والأشخاص المعنوية من أي اعتداء، ولان فعل الإهانة يعد من الأفعال التي تتضمن شتيمة فيها إذلال واحتقار موجه إلى شخص المهان، فكان على المشرع ان يحمي شرف ومكانة الهيئات النظامية وكذلك العاملين فيها. إلا انه فرّق بين إهانة الكيانات التي تمثل الهيئات النظامية وبين إهانة الموظفين العاملين فيها، حيث اعتبر إهانة الكيانات اشد ضرراً من إهانة الموظفين العاملين فيها لأنه جعل عقوبة جريمة إهانة رئيس الجمهورية اقسى من جريمة إهانة الهيئات النظامية، كما جعل عقوبة تلك الجريمتين اقسى واشد من عقوبة الاعتداء على العاملين في تلك الهيئات، وعقوبة جريمة إهانة رئيس الجمهورية السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات او الحبس، وعلى وفق ما ورد في المادة (225) عقوبات وعقوبة جريمة إهانة الهيئات النظامية السجن مدة لا تزيد على سبع سنوات او الحبس او الغرامة وعلى وفق ما ورد في المادة (226) عقوبات. كذلك عقوبة جريمة إهانة الموظف أو المكلف بخدمة عامة بالحبس مدة لا تزيد على سنتين او بالغرامة وعلى وفق ما ورد في المادة (229) عقوبات، ومن خلال عرض النصوص أعلاه نجد ان المشرع قد تعمد التفريق بين إهانة الهيئات النظامية والعاملين فيها، كما انه شدد العقوبة على فعل إهانة بعض العاملين في تلك الوظائف وهذه الفئات.
الا ان التطبيق القضائي لم يميز بين إهانة الموظف واهانة المؤسسة، حيث ربط أي نقد موجه لشخص الموظف في المؤسسة سواء كان على رأسها او عضوا فيها، بانه اعتداء على المؤسسة، وكأنما المؤسسة أصبحت ملكاً للموظف فيها، ومن ثم لا يجوز توجيه النقد الى رئيسها والموظف الفاعل فيها، وهذا قوض حرية التعبير عن الرأي الى اقصى حد، ما جعل من النقد نحو الأداء الوظيفي معدوماً في الاعلام او يكون بالمواربة، او باتخاذ أسماء وهمية. ويرى احد المختصين في علم الاجتماع ان هذا الأسلوب هو من اثار تقمص اساليب الطغاة والديكتاتورية الذين يسوقون الامة لإعلاء مجده الشخصي، ويريق الدماء لإحياء ذكراه هو لا ذكرى امته او المؤسسة التي يتولى ادارتها، وهذه هي شهوة الحكم التي ميزت الطغاة والفاسدين.
لذلك ان منح فرصة للمواطن او الإعلامي بالتعبير عن الرأي هو أسلم وسيلة لمنعه من الانجرار إلى اتباع وسائل غير سلمية، أو يتبع أسلوب المواربة والتواري خلف أسماء وهمية تمنع صاحب القرار من التمييز بينها وبين أصحاب الغرض السيء، والتقيد وتجريم النقد الموجه الى المؤسسة طال عدة اشخاص منهم من كان من قادة الرأي العام وكانت هذه الاحكام قد صدرت بناءً على شكوى من كبار المسؤولين في الدولة العراقية تجاه أشخاص وجهوا نقداً للأداء الحكومي والتشريعي والقضائي، ولم يكن موجها لشخص من يتربع على عرش تلك المؤسسات. وهذه المادة من نتاج عقلية ديكتاتورية تنتهج سياسة تشريعية تأثراً ببعض القوانين العقابية في البلدان العربية وعلى وفق ما ورد في الأسباب الموجبة لقانون العقوبات واغلب تلك الأنظمة العربية هي شمولية ديكتاتورية بطبيعتها ولم تمارس اي ديمقراطية وكان الحاكم فيها غير قابل للعزل أو مستعداً لتداول السلطة سلميا، وإنما جميعهم تركوا السلطة إما بعد موتهم أو بانقلاب عسكري، ويرهن مصير البلد بشخوصهم، ويجعل من مقدراته وموارده ومؤسساته ملكاً صرفاً واي نقد يوجه إلى تلك المؤسسات هو اعتداء على شخصهم، وهذه هي العقلية التي أنتجت لنا المادة (226) من قانون العقوبات، لكن كنا نأمل خيراً في الفترة الزمنية التي تلت عام 2003 والفترة التي تلت دستور العراق لعام 2005 للمبادئ الديمقراطية التي وردت فيه، ومنها تجاه حرية التعبير عن الرأي وتعزيز النقد البناء تجاه الأداء الحكومي والتشريعي والقضائي، لكن استمر العمل بتطبيق تلك المادة وبوتيرة عالية في بعض الأوقات، وما ظهر للإعلام في الفترة الأخيرة من إسراف في تطبيقها بحيث جعل من النقد الموجه الى الشخصيات العامة بمثابة الجريمة، وتمت محاكمة أشخاص وإدانتهم بموجبها، بعضهم من عامة الناس والبعض الآخر من قادة الرأي العام، وكانت ردود فعل الجماهير غاضبة ومستغربة من تفعيل هذا النص الجائر في ظل وجود نص دستوري يضمن للمواطن حقه في التعبير عن وجهة نظره تجاه الأوضاع السائد التي يعاني منها. ومن حقه ان يوجه النقد إلى شخص المسؤول لأنه هو من يملك سلطة القرار، ولا بد من ان يتحمل هذا المسؤول مسؤولية تردي الأوضاع التي يعاني منها المواطن المحتج، وعلى وفق المادة (38) من الدستور.
وحتى عندما سعى المختصون لإصدار قانون جديد للعقوبات فان السياسة الجنائية التي انتهجها القائمون عليها تميل نحو التضييق والتشديد تجاه أي نقد بناء. وما ورد في المواد العقابية سواء التي كانت في قانون العقوبات النافذ رقم 111 لسنة 1969 المعدل او مشروع قانون العقوبات الذي اعلن عنه رئيس الجمهورية في حينه، فإنها جميعا تمثل سياسة أنظمة شمولية وعقليات ديكتاتورية تشخصن الوظيفة، وتسعى إلى شخصنة القانون وهذا امتداد للعقل المهيمن على مقاليد الأمور في البلاد، وكنا نأمل ان يكون خطوة إلى الإمام وليس العكس. والملاحظ ان هذه الأفعال التي جرمتها تلك المواد لم تكن بمثل هذه القسوة أيام الملكية في العراق، لان قانون العقوبات البغدادي الصادر عام 1918 وفي المادة (122) قد فرض عقوبة لا تزيد على الحبس ستة اشهر او بغرامة، وعلى وفق النص الآتي (من أهان بالإشارة او القول او الفعل موظفا عموميا او احد رجال الضبط او أي إنسان مكلف بخدمة عمومية أثناء تأدية وظيفته يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة اشهر او بالغرامة او بهما فاذا وقعت الإهانة على محكمة قضائية او إدارية او مجلس او على احد أعضائهما وكان ذلك أثناء انعقاد الجلسة تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد عن سنة او الغرامة او كليهما). وحتى في حالة الاعتداء على المحاكم فقصر التجريم على الاعتداء الذي يقع أثناء انعقادها فقط، بينما التشريع النافذ والمشروع المقترح ترك الأمر حتى لو وجهت الإهانة إلى شخص رئيسها بوصفه الإداري وليس القضائي.
ـــــــــــــ
* قاضٍ متقاعد