اخر الاخبار

شحّة مشهودة في المنتج الفكري لليسار العراقي في الحقول القانونية، وهي شحّة يرافقها طعم التقصير، توجّه خصوصا إلى العائلة الأكاديمية القانونية ذات التوجّه اليساري. فخلال قرن ونيف، لا نعثر إلا على محطتين بارزتين تكادان تكونان الاستثناء في هذا الميدان. الأولى تمثّلت في الراحل حسين الرحّال (1900–1971)، صاحب الوعي القانوني الماركسي المبكر، والذي دشّن في عام 1924 أول حلقة ماركسية عراقية وأصدر صحيفة تعدّ بمثابة أول إعلان قانوني ثقافي للفكر الماركسي في البلاد. ومع رحيله، خبت بواكير الخصب القانوني الماركسي، لتغيب عن المشهد لعقود.

ثم جاءت المحطة الثانية مع الراحل الدكتور صفاء الحافظ في سبعينات القرن الماضي، والذي قدّم مصنّفه المهم "نظرية القانون الاشتراكي". وكتب مساهمات نوعية في إصلاح النظام القضائي نُشرت في مجلة "القضاء" الصادرة عن نقابة المحامين عام 1972، وكان عضوا فاعلا في اللجنة التي شكّلتها وزارة العدل لإصلاح النظام القانوني آنذاك. لكن برحيله المأساوي، عاد الجدب، ولم يأت بعده من يواصل المسار حتى يومنا هذا.

لا عذر للتراخي. فالفكر الماركسي خلّف تراثا قانونيا ثرياً، تعامل فيه مع القانون باعتباره انعكاساً للبنية التحتية لعلاقات الإنتاج. وقد تناولت الأجيال اللاحقة هذه الفرضية بالدراسة والتحليل، فأنجبت مدارس فكرية متعاقبة أثّرت في الفكر القانوني العالمي، ولا تزال تعدّ مصدر إلهام للباحثين ومنظّري القانون، خصوصاً في ظل التحولات الاجتماعية المستمرة.

واللافت أن هذا الفكر، رغم عدائه المعلن للرأسمالية، لم يبق حكراً على اليسار، إذ استنجدت به حتى بعض الدول الرأسمالية في لحظات أزماتها الكبرى، لما يحمله من أدوات تحليلية نافذة وقابلة للتطبيق النقدي.

هنا، نحن بأمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في حالة التراخي التي تطبع الحقل القانوني اليساري في العراق، خاصة وأن الفكر الماركسي قد خلّف إرثاً نظرياً عميقاً، وترك لنا قامات فكرية يشار إليها بالبنان، شكّلت علامات بارزة في إعادة تعريف القانون ضمن بنية الهيمنة والصراع الطبقي. نمرّ على بعض منها، على سبيل المثال لا الحصر:

  1. يوجين بازوكانيس (Evgeny Pashukanis) (1891–1937)

المنظّر القانوني البارز في سياق الثورة البلشفية، تولّى عدة مناصب بعد ثورة أكتوبر 1917، منها منصب "قاضي الشعب" عام 1918. قدّم بازوكانيس قراءة مغايرة تماما للقانون، حيث صاغ "براديغما" قانونياً ماركسياً من خلال دراسته الأصيلة لفلسفة القانون، ما جعله موضع تبجيل لدى فلاسفة القانون الغربيين حتى اليوم.  يعد كتابه الشهير "النظرية العامة في القانون والماركسية" (1924) منجزه الأهم، حيث يقول فيه (الإنسان في المجتمع هو الفرضية التي تنطلق منها النظرية الاقتصادية، ويجب على النظرية العامة في القانون أن تنطلق أيضا من الفرضيات الأساسية ذاتها).

  1. أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci)

في رسالة كتبها من سجنه بتاريخ 3 تشرين الأول 1927 إلى والدته، يقول (تخليت عن قراءة الصحف لن أتمكن من قضاء بعض الوقت رفقة معتقلين آخرين غير مسموح لي أن أزور معتقلين سياسيين يتعلق الأمر إذن بسجناء الحق العام).  تلك الرسالة تعكس موقفه النظري القانون في جوهره أداة قمعية (الشرطة، الجيش، المحاكم) وأداة للهيمنة، إذ يسهم في الامتثال الطوعي عبر ما يسميه الوظيفة التربوية، ويضيف أن القانون ليس مجرد آلية ضبط، بل هو أيضا "كتلة تاريخية" تسهم في تحقيق النفوذ السياسي والاستقرار الاجتماعي.

يؤكد غرامشي أن التغيير لا يتحقق بالقوة فقط، بل من خلال بناء نموذج ثقافي بديل لدى الجماهير أدواته الأساسية هي الثقافة والوعي.

  1. لويس ألتوسير (Louis Althusser) (1918–1990)

من أبرز منظّري العلاقة بين الدولة والقانون في مقاله المهم "الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" (1970)، يدرج القانون ضمن أجهزة الدولة القمعية مثل الشرطة والمحاكم، لكنه يرى أيضا أن للقانون وظيفة أيديولوجية الحفاظ على النظام الرأسمالي، من خلال إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة.

   وفق ألتوسير، القانون ليس محايداً، بل أداة لإعادة إنتاج البنية الفوقية، التي تخدم وتشرعن مصالح الطبقة الحاكمة، ويخضع بالتالي لأيديولوجيا الدولة.

  1. بيير بورديو (Pierre Bourdieu) (1930–2002)

عالم الاجتماع الفرنسي الذي قدّم رؤية نقدية عميقة لدور القانون، يرى أن القانون لا يُنتج العدالة، بقدر ما يُنتج اللامساواة المقنعة بشرعية شكلية. يصف القانون بأنه خطاب يضفي الشرعية على التمايز الطبقي والجنسي والعرقي، ويعمل من خلال اللغة والسلطة الرمزية لإعادة إنتاج الهيمنة، لا بالقسر المباشر، بل عبر القبول والامتثال الطوعي، أي بالشرعية الرمزية.

بذلك يختلف بورديو عن ألتوسير إذ يرى القانون ليس مجرد أداة أيديولوجية قمعية، بل حقل رمزي للهيمنة يعمل على تثبيت النظام الاجتماعي القائم تحت غطاء "الموضوعية" و"الحياد".

أزمة الفكر القانوني اليساري لا تكمن في غياب المنطلقات النظرية أو ندرة الأدبيات المرجعية، بل في القطيعة المزدوجة التي يعيشها، قطيعة مع الإرث الماركسي الغني في فهم القانون كأداة صراع طبقي وهيمنة رمزية، وقطيعة مع الواقع الاجتماعي القانوني المحلي الذي تتعمّق فيه مظاهر الظلم واللامساواة والعدالة الشكلية.

لقد استسلم هذا الحقل على قلّته إما للنقل الأكاديمي الجاف، أو للخطاب الحقوقي المجتزأ الذي يفرّغ القانون من محتواه البنيوي والسياسي، ويحوّله إلى تقنية إجرائية أو مطلب إصلاحي معزول عن التناقضات الطبقية وموازين القوى الفعلية.

إن غياب الاجتهاد النظري، وانكفاء اليسار عن خوض معركة إعادة تعريف القانون بوصفه ميداناً للصراع الاجتماعي، جعلا من الفكر القانوني اليساري طرفاً غائباً في لحظة تاريخية تتكثف فيها أدوات السيطرة القانونية، وتتعمّق فيها الحاجة إلى نقد جذري للنظام القضائي والتشريعي بوصفه جزءا من بنية السيطرة لا أداة حياد من هنا، فإن إحياء هذا الحقل ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة نضالية لاستعادة أحد ميادين الصراع التي هجرتها القوى التقدّمية لعقود.

هذا غيض من فيض الثروة الفكرية التي يمكن الاشتغال عليها، والتي ينبغي أن تدرج ضمن متبنيات اليسار العراقي، الملزم اليوم أكثر من أي وقت مضى بمغادرة حالة التراخي المزمنة التي طال أمدها في هذا الحقل الحيوي.